عقارات مدمرة وأنقاض مكدسة على جنبات الطرق في كل مكان.. مشهد لا يزال يلف المدن والمناطق المحررة من تنظيم داعش شمال وغرب العراق، رغم مرور أكثر من عامين على هزيمته واستعادة بغداد السيطرة على تلك المناطق، ووعود الإعمار التي أقيمت من أجلها مؤتمرات دولية.
بين المبررات الحكومية عدم وجود مخصصات مالية كافية، ومخاوف المانحين الدوليين من تسرّب أموالهم بعيداً عن مسالك الإعمار، في ظل الفساد المستشري في العراق، أضحت المدن والمناطق المحررة عنواناً للفقر والبطالة والتهميش.
لم تعد القدرة على مغادرة المكان متاحة حتى لمن اتخذ القرار، فغياب الإعمار دفع أسعار العقارات وغيرها من الممتلكات إلى الانهيار، ولم يعد عرضها بأثمان بخسة مغريا للمشترين.
ويحتاج العراق، وفقا لتقارير حكومية، إلى ما بين 80 إلى 90 مليار دولار، لإعادة إعمار 180 مدينة وقضاء وبلدة وناحية موزعة على محافظات الأنبار ونينوى وديالى وصلاح الدين وكركوك وحزام بغداد وشمال بابل، وهي المدن التي اجتاحها تنظيم داعش شمال وغرب العراق منتصف عام 2014 وجرى تحريرها في 2017، بينما تمثل ما نسبته 49 في المائة من إجمالي مساحة البلاد.
ورعت الكويت، في فبراير/شباط من العام الماضي 2018، مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار وتنمية العراق، بمشاركة أكثر من 40 دولة ومئات الشركات الأجنبية في مختلف القطاعات، فيما أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي، الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، وقتها، أن التعهدات الدولية في المؤتمر بلغت 30 مليار دولار.
لكن هذه التعهدات لم تجد طريقها للتفعيل، فيما قال مسؤول كبير في وزارة التخطيط ببغداد، لـ”العربي الجديد”، إن 6 دول عربية وأجنبية أبلغت العراق بأن نفوذ المليشيات المسلحة والأحزاب وتغول الفساد في العراق وعدم تقديم الحكومة خارطة طريق واضحة لكيفية إنفاق الأموال على مشاريع الإعمار، هو ما دفعها إلى التردد في الوفاء بتعهداتها.
وأضاف المسؤول العراقي أن جهود الإعمار تقوم حاليا على مساهمات من الأمم المتحدة وجهود محلية وأخرى من الحكومة الاتحادية، وتركز على عمليات تنظيف ورفع أنقاض وترميم طرق، لكن هناك أكثر من 200 ألف وحدة سكنية مدمرة وعشرات المستشفيات والمراكز الصحية ومئات المدارس خارجة عن الخدمة، وقرابة 10 آلاف كيلومتر من الطرق والجسور بحاجة إلى إعمار.
ومع غياب الجهود الدولية للإعمار، فإن الوعود الحكومية بمنح تعويضات للمتضررين تغيب عن المشهد كذلك، ولا توجد لها مخصصات، سواء في موازنة العام الجاري أو جدول أعمال الحكومة.
وقال قاسم عواد، مدير شركة الفرات للإنشاءات والإعمار، لـ”العربي الجديد”، إن عدم دخول مدن شمال وغرب العراق في مرحلة الإعمار والتأهيل جعلها تغرق أكثر في الفقر، مضيفا “للأسف هناك حالياً انهيار كبير في أسعار العقارات والأراضي السكنية والزراعية، بسبب انهيار القدرة الشرائية للسكان، فلا يوجد لديهم أموال لبناء منازلهم، وإن عرضوها حتى للبيع فلا يجدون مشترين، والكل يترقب الحكومة أو الشركات الاستثمارية، وكلاهما غائب”.
وتابع “الخوف من القادم هو ما يخيم على تلك المناطق، فتعدد الجهات التي تمسك بالسلاح وتدخّلها في المشاريع والإعمار أحد أبرز ما يجعل المستثمر يخاف من الدخول وتوريط نفسه، أما الحكومة فقد تنصلت من وعودها السابقة في إعمار ورعاية المدن المحررة من داعش”.
وأشار إلى أن الوعود المصرفية بتقديم قروض للراغبين في إعادة بناء منازلهم المدمرة، لا يمكن أن تساهم في حل المأزق، لأنه تبيّن أنها مسبوقة بشروط تعجيزية لا تنطبق على 80 بالمائة من سكان تلك المناطق.
وتشير بيانات صادرة حديثاً عن وزارة التخطيط، إلى أن معدل الفقر في البلد الغني بالنفط، وصل إلى 22.5 في المائة خلال العام الجاري 2019، بما يعادل 8.6 ملايين نسمة.
وقال انتفاض قنبر، رئيس حزب المستقبل العراقي، لـ”العربي الجديد”، إن “من المعيب أن العراق يأخذ منحا وهو بلد منتج للنفط، فالمنح تعطى إلى الدولة الفقيرة التي ليست لها موارد وليست لديها إمكانية لإعادة البناء والإعمار”.
ويعدّ العراق من أكبر الدول العربية إنتاجاً للنفط. ووفق تصريحات لوزير النفط جبار اللعيبي، في أغسطس/آب الماضي، فإن بلاده تعمل على رفع الإنتاج خلال السنوات المقبلة إلى 7.5 ملايين برميل يومياً، مقابل نحو 4.5 ملايين برميل يومياً حالياً، فيما يبلغ احتياطي النفط المؤكد نحو 112 مليار برميل.
وأضاف قنبر أن “إعطاء منح أو قروض خارجية، ليس فقط تهديدا للسيادة العراقية، بل تهديد بأن يتم سرقة أموال الأجيال القادمة، فالديون التي يأخذها العراق تترتب عليها فوائد، وهذه الفوائد سوف تنتقل إلى الأجيال القادمة. فالسرقة لا تقتصر على سرقة المال الآن، بل سرقة أموال العراق المستقبلية، وهذا فيه خطورة كبيرة، قد تؤدي إلى انهيار العراق اقتصاديا وماليا وسياديا”.
وتابع: “هناك رغبة سياسية، خصوصاً من الجهات الموالية لإيران، بألا يتم إعمار المناطق السنية المحررة، ولهذا يتم سرقة الأموال المخصصة لتلك المناطق، خصوصاً مع وجود جماعات مسلحة تسيطر عليها”.
بدوره، قال أثيل النجيفي، القيادي في جبهة الإنقاذ والتنمية ومحافظ نينوى سابقا، لـ”العربي الجديد”، إنه “من المؤسف أن المنظمات الأجنبية وقعت تحت سيطرة السلطات المحلية العراقية ولم تعد تتبع الأساليب المعروفة عالميًا بإحالة العقود وتنفيذها، بل هي أقرب لإرضاء المسؤولين العراقيين، الذين يمتلكون حق السماح لهم أو منعهم من العمل”.
وأوضح النجيفي أن “بعض المنظمات وقعت ضحية لاستغلال المسؤولين في المحافظات المحررة في بادئ الأمر، ثم إن تلك المنظمات عرضت استياءها من هذا الأسلوب على رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وأبلغوه بعدم قدرتهم على التعامل مع الإدارات المحلية، ولكن مع الأسف لم يتم اتخاذ أي إجراء”.
وأضاف أن “عدم وصول المنح المالية التي جرى التعهد بها في مؤتمر الكويت الدولي إلى بغداد حتى الساعة، يأتي بسبب الفساد من ناحية، ومن ناحية أخرى لعدم قدرة العراق على فتح منافذ استثمار مطمئنة لتلك الدول”.
وجاء العراق في المرتبة 168 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2018.
وقال غيث التميمي، زعيم حزب المواطنة المعارض، لـ”العربي الجديد”، إن “هناك فسادا ونهبا منظما لأموال الشعب، كما أنه إذا لم تتم السيطرة على المليشيات المسلحة، فلن يتم تعمير المناطق المدمرة، بل ستتعرض مدن أخرى للتدمير، وسوف تنهب أموال جديدة باسم الإعمار والبناء، فأموال المنح الدولية لم ولن تصل إلى بغداد إذا ظل الفساد الحالي وسيطرة الجماعات المسلحة على المدن المحررة، المخصص لها الأموال”.
وكان نائب في البرلمان قد قال، لـ”العربي الجديد”، في وقت سابق، إن “هناك أكثر من 40 قضية فساد في العراق بقيمة تصل إلى 100 مليار دولار”.
وقال جوزيف صليوا، النائب في البرلمان ورئيس كتلة الوركاء الديمقراطية، لـ”العربي الجديد”، “لابد من تشكيل لجنة مشتركة بين العراق والدول المانحة من أجل تكون هناك شفافية في كيفية إنفاق الأموال المخصصة للإعمار، حتى يتم إعادة بناء المدن المدمرة بشكل جاد”، مقترحا إشراف الأمم المتحدة على عمل هذه اللجنة.
كان جاسم البخاتي، عضو لجنة الخدمات في البرلمان، قال لـ”العربي الجديد”، في وقت سابق من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إن “عدد المشاريع الوهمية خلال الفترة من 2003 (عقب الغزو الأميركي ــ البريطاني) وحتى عام 2019، زاد عن 6 آلاف مشروع”، مشيرا إلى أن المبالغ التي تكبدها العراق بسبب ذلك تبلغ قرابة 200 تريليون دينار (حوالي 178 مليار دولار).
العربي الجديد