لم ينتبه اللبنانيون في ظل احتجاجاتهم الشعبية الكبيرة ومطالبتهم بإسقاط النظام، إلى أن اتفاق الطائف الذي وضع حدا لاقتتالهم المسلح على مدى 15 عاما (1975-1990)، قد مر على توقيعه ثلاثون عاما.
فهذا الاتفاق الذي أجمع عليه قسم كبير من اللبنانيين، وصار دستورهم الجديد كخطوة أولى نحو تطوير نظامهم السياسي، جاء بعد أن تحققت وظيفة حربهم الأهلية إقليميا ودوليا ومحليا، كما يقول الباحث الاجتماعي نضال خالد للجزيرة نت، فالحرب التي دمرت لبنان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وخلفت آلاف القتلى والجرحى والمفقودين، لم تزل تئن البلاد من ثقل آثارها وما أنتجته من مآس.
واتفاق الطائف الذي توافق عليه اللبنانيون يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، صار تطبيق بنوده الإصلاحية مطلبا للمنتفضين في الشوارع ضد السلطة السياسية القائمة بكل مواده التي يعتبرونها خطوة أولى نحو بناء دولة مدنية شاملة غير طائفية أو مذهبية، من خلال تطبيقه أولاً، وإجراء تعديلات عليه ثانيا بما يتناسب وطموحات الشعب اللبناني، كما يقول الباحث خالد.
وفي هذا الصدد دعا الكاتب الصحفي داود رمال المتظاهرين في الشوارع والساحات إلى “رفع شعار تطبيق الطائف” لا إسقاطه، ويقول للجزيرة نت “هناك نظام طوائفي وزعامات صادرت هذه الطوائف، فليطالب المتظاهرون بتطبيق الاتفاق، وعندما يطبق لا يبقى أحد من رموز هذه الزعامات”.
اتفاق الطائف إلى أين؟
ولكن هل طُبق اتفاق الطائف بعد 30 عاما على ولادته؟ يقول نضال خالد -الذي كان يشارك مع مجموعة من الأساتذة الجامعيين في الاحتجاج بوسط بيروت ضد ما سماها “المنظومة الحاكمة”- إن التطبيق “الناقص” لاتفاق الطائف أسهم في تعزيز مفهوم الانقسام بدل الوحدة الوطنية.
ويضيف أن “الطوائف اللبنانية لم تعد تنظر إلى لبنان إلا على أنه جزء من نفوذ القوى الإقليمية الراعية لها”، موضحا أن “الامتداد الإقليمي للطوائف اللبنانية يسهم أيضا في زرع بذور حروب جديدة نتيجة للتوازنات الهشة بين هذه الطوائف بفعل موازين القوى لحمايتها على مستوى الإقليم”.
ووفق خالد فإن الحراك الشعبي ونقمته الواسعة في الوقت ذاته على أركان السلطة الحالية ما هما إلا تعبير عما فعلته القوى المتعاقبة على تطبيق وإدارة اتفاق الطائف على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
ويرى أن اتفاق الطائف أسقط النموذج الاقتصادي المالي اللبناني الذي كان سائدا قبل الحرب والقائم على المبادرة الفردية واقتصاد السوق، إلى نموذج اقتصاد ريعي يقوم على نهب مقدرات الدولة عبر المحاصّة الطائفية والمذهبية.
ومن وجهة نظر خالد فإن اغتيال رفيق الحريري عام 2005 -وهو الذي كان يعتبر حامي الاتفاق وعرابه-أنهى مفعول ما يسمى الرعاية الإقليمية للاتفاق “الذي كان بحاجة إلى مايسترو سياسي اقتصادي أمني من أجل استمراره كنظام حكم، وهذا ما برز مع خروج النظام الأمني السوري من لبنان، مما جعل القوى السياسية تقف عاجزة في كثير من الأحيان أمام حل للصراعات السياسية”.
وأعرب الباحث عن اعتقاده بأن غياب الراعي الإقليمي السوري السعودي “أظهر هشاشة هذا الاتفاق، حيث ظهر جليًّا غياب مفهوم الدولة الواحدة الموحدة عبر تجانس المؤسسات الرسمية السياسية والأمنية، مع بروز قوة سياسية وعسكرية خارج إطار الدولة الشرعية تستعمل هذه القوة في المعادلات الداخلية كما حصل يوم 7 مايو/أيار 2008، مما مهد لإنتاج اتفاق الدوحة بين اللبنانيين لتنظيم إدارة دولتهم”.
رموز الطائف؟
ولكن ماذا بقي من اتفاق الطائف؟ يقول داود رمال للجزيرة نت إنه “لم يبق من الاتفاق إلا بعض الرموز التي انتهكت الاتفاق وعلقت العمل به، وهو ما أوصلنا اليوم إلى الاحتجاجات الشعبية”.
ويعرب عن اعتقاده بأن تطبيق اتفاق الطائف وتحديدا البند المتعلق بقانون الانتخاب النيابي واعتماد المحافظة دائرة انتخابية، “ينهي هذه الطبقة السياسية ويضعها خارج القرار السياسي، ويؤتى بالممثلين الحقيقيين للبنانيين”. ويختم “لا أعتقد ان بإمكان هذه السلطة أن تطبق دستورا يطيح بها”.
لكن ما هو مصير الاتفاق اليوم؟ يقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت الدكتور خليل جبارة إن هواجس اللبنانيين متنوعة حيال مصير اتفاق الطائف.
ويضيف جبارة في حديث للجزيرة نت أنه بعد مرور 30 عاما على إقرار هذه الوثيقة، يكثر الحديث عن مصير الاتفاق، ويتحدث البعض عن “مؤتمر تأسيسي جديد يعكس مدى التغيير في موازين القوى المحلية”.
ويرى أن اتفاق الطائف كان يحظى بغطاء دولي ومتابعة إقليمية من السعودية وسوريا وبإدارة محلية من رفيق الحريري وبعض القادة الآخرين. ويقول إن اغتيال الحريري أسهم في تدهور العلاقات السعودية السورية، وبالتالي غياب أي مرجعية تنظم الخلافات المحلية المترتبة عن الغموض الوارد في العديد من المواد الدستورية التي أضيفت بعد اتفاق الطائف.
وبحسب الدكتور جبارة فإن هذا الغموض تم التعبير عنه مرارا بآلية تشكيل الحكومات وفرض مفاهيم جديدة مثل الثلث المعطل والرئيس القوي وحقوق المكونات، وهذا ما يؤكد -بحسبه- “مدى تضرر الاتفاق من غياب المرجعية اللبنانية أو الإقليمية التي تنظم الخلاف بين المكونات الطائفية اللبنانية، خصوصا عندما فرض حزب الله أجندته السياسية على اللبنانيين بقوة سلاحه”.
من جهته يرى الكاتب والمحلل السياسي ميشال أبو نجم أن ما تبقى اليوم من الطائف هو “الميثاقية التي تشكل أساس الانتظام الاجتماعي والدستوري في لبنان”.
ويقول أبو نجم في حديث للجزيرة نت إن الاتفاق بحاجة إلى إصلاحات وتطبيق ما لم يتم تطبيقه، وهذا ما سيفتح نوافذ إيجابية للنظام السياسي.
ولكن فتح ملف تعديل هذا الاتفاق الآن -يقول أبو نجم- قد يؤذي المطالب الاجتماعية للانتفاضات الشعبية، ويؤدي إلى صراعات بين القوى الطائفية وإثارة هواجس الجماعات. ويرى أنه “من الضرورة فتح نوافذ كتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة والبحث في إعادة بعض الصلاحيات المطلوبة لرئيس الجمهورية، ولكن ينبغي قبل الحديث عن الطائف اليوم الخروج بحلول واضحة للأزمة الحالية”.
الجزيرة