اتخذت التحرّكات الاحتجاجية في لبنان منحى تصاعديّا منذ الخميس مع ازدياد أعداد المتظاهرين تباعاً، في تحرّك شلّ البلد وأغلق مؤسساته كافة. ويحمل المتظاهرون على الطبقة السياسية لسوء إدارتها شؤون البلاد وفسادها وعجزها عن إيجاد حلول لمشاكل متفاقمة منذ عقود. وتتشابه احتجاجات لبنان مع احتجاجات أخرى عرفتها المنطقة مثل العراق ومصر والسودان والجزائر وتونس، غير أن صعوبات المرحلة الانتقالية التي شهدتها دول نجحت فعلا في الإطاحة بأنظمتها تطرح تساؤلا بين أي الفكرتين الأجدى والتي تستجيب وتتلاءم مع تطلعات الشارع العربي: إسقاط النظام أم الاكتفاء بتعديل ثغراته وإصلاحه.
كشفت احتجاجات لبنان على أداء الطبقة السياسية الحاكمة عن واحدة من المشكلات التي لم يلتفت إليها كثيرون، وتتعلّق بالحيرة بين فكرتي إسقاط النظام وإصلاحه. فقد توصّل قطاع كبير من المتظاهرين إلى وجود صعوبة في الحالتين. فالسقوط قد يترتّب عليه انفلات يصعب تطويقه، والإصلاح غير متوقع أن يكون دقيقا وعميقا ومجديا على أيدي من جرى اختبارهم، وفشلوا في الحصول على الحد السياسي الأدنى للنجاح.
تُحيل المفارقة اللبنانية إلى أخرى عربية أشدّ جسامة، وتخصّ الطريق الثالث، أي الهدم ثم إعادة البناء، أو ما أسمته كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية بـ”الفوضى الخلاقة” عام 2005، ويتبنّى هذا الخيار صراحة تيار ماركسي يعرف بـ”الاشتراكيين الثوريين”، وضمنيا التيار الإسلامي بأطيافه المختلفة، وهو إذا لم يتمكّن من القبض على زمام السلطة، فعليه مباركة هدمها بما يمكنه من الحصول على جزء من الكعكة في حالة تعميم الفوضى.
تميل فئة كبيرة من الشباب نحو إسقاط الأنظمة الفاسدة بالتظاهرات في المنطقة العربية، وتراها خطوة للتقدّم وتحقيق الغايات. وتمّت تجربة هذه المسألة في كل من مصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس، وثبت أن السقوط ليس حلا في حد ذاته، باستثناء تونس وتلك لها خصوصية من الصعوبة القياس عليها. وأثبتت النتائج التي وصلت إليها الدول التي شهدت انتفاضات وموجات ثورية متعدّدة أن السقوط قد يتحوّل إلى فخ يصعب الخروج منه، إذا لم تتوافر قوى وأحزاب ناضجة تستطيع التعامل مع ما تفرزه حالة السقوط.
تبنّى السودانيون الفكرة، وتبعهم الجزائريون بدرجة أقلّ، ولم يجدوا بُدّا من إسقاط الطبقة الحاكمة بكل ما تحمله من روافد سياسية وأمنية واقتصادية، نجح السودانيون في تقنين ثورتهم، وتمكّنوا من عزل الرئيس عمر حسن البشير بطريقة ناعمة إلى حدّ كبير، ولا يزال الجزائريون حيارى في الطريق الذي يسلكونه بعد إجبار الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على التخلّي عن السلطة.
سيناريو السقوط
خلف تطبيق سيناريو السقوط نماذج مختلفة، لكن جميعها تؤكد أن اللجوء إليه يجب ألاّ يصبح هدفا من دون أن تكون هناك استعدادات جّيدة للتعاطي مع يؤدي إليه من انعكاسات، تؤكد في معظمها ضرورة أن تكون ثمّة جاهزية سياسية ليكون مفيدا.
وهي جاهزية تتوقّف على نوعية القوى المستعدة. ففي الدول التي كان التيار الإسلامي فيها قويّا حصد الثمار وحده، في مصر مثلا، لكن المعادلة اختلت لاحقا عندما استعادت المؤسسة العسكرية لياقتها السياسية، وصوّبت المسار الإخواني المرفوض من قبل غالبية المصريين.
ضبط السودانيون مؤشرهم على ما حصل في مصر، ولم يسمحوا للحركة الإسلامية التي ثاروا عليها بإعادة التموضع، وتمكّنوا من تحييد المؤسسة العسكرية نسبيا بطريقة لا تؤدّي إلى وقوع البلاد في حجرها تماما أو حجر الإخوان مرة أخرى، وساعدتهم العافية السياسية في تحاشي النتائج القاتمة للسقوط المفاجئ للنظام، والتوصّل إلى صيغة وسط، أنتجت نمطا هجينا للسلطة الانتقالية يجمع بين جزء من ميراث الماضي، ممثّلا في دور الجيش، وحداثة الجيل الحالي، وعبّرت عنه قوى الحرية والتغيير.
يفتقر اللبنانيون إلى الحيوية التي تنطوي عليها الرؤية السودانية، لأن أحزابهم لم تعرف طوال تاريخها سوى الطائفية المقيتة، التي ظهرت نواة جدية تتجه نحو زيادة رقعة لفظها، وهو ما شرع السودانيون في تطبيقه، ويبذلون جهودا مضنية لعدم عودتها من خلال الحركات المسلحة التي دخلت مشروعا تفاوضيّا واعدا، تشير ملامحه إلى عدم استبعاد الحد من الإثنية والطائفية والمناطقية مستقبلا، طالما جرى التمسك برفض المحاصصة.
لذلك لم يعوّل خطاب المتظاهرين الحداثي في لبنان على سقوط الطبقة الحاكمة للخروج من المأزق، ودخلوا حلقة مثيرة، لا هي تؤيد السقوط ولا ترفضه، لأن جميع البدائل المتوافرة تخشى من العاقبتين، فالميزة التي حملتها الاحتجاجات أنها كبتت المعالم الطائفية، ولا أحد يقول أن الآلاف الذين خرجوا في بيروت وغيرها من مدن الشمال والجنوب تميل إلى حزب بعينه، ولا توجد قيادة معروف أنّ لها انتماءات لفريق سياسي محدّد، فالكل في الهمّ الطائفي سواء.
منحت التظاهرات زخما، عبّر عن المخاطر التي سلكها لبنان، وأصبح شعبه عاجزا عن تأييد سقوط الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والحكومة والبرلمان) أم بقائهم. وهي الأزمة التي يواجهها مواطنو كل دولة يريدون تغيير حكامهم الذين فطنوا إليها، وبالغوا أحيانا في البطش بدلا من اللين ولم يتبنوا خططا محددة للإصلاح الشامل. وفي الوقت الذي انتظر فيه اللبنانيون تقديم سعد الحريري رئيس الحكومة استقالته، امتنع عن مجرد التلويح بها، وقام بصلافة حسن نصرالله، زعيم حزب الله، بدعم وجوده، وبقيت القيادات ذاتها مراهنة على فتور حماس المتظاهرين والعودة إلى منازلهم واستئناف جدول الأعمال التقليدي.
إشارات للمستقبل
قد ينصرف اللبنانيون إلى بيوتهم وتنفض تظاهراتهم، غير أن ما حملته من إشارات ومضامين سوف تكون كبيرة في المستقبل، ولجهة من يفكرون في إسقاط الحكام عليهم تهيئة البيئة لتقبل نظام بلا محاصصة طائفية أو بقليل منها، وعليهم ترتيب أولوياتهم وإعداد مشروع سياسي متكامل ودرجة عالية من الجاهزية تسد أي فراغ محتمل. ولجهة من يريدون البقاء في السلطة الاستعداد لأيام صعبة، قد تتغير فيها قواعد اللعبة، لأن الحراك الذي حدث في كلّ من العراق ثم لبنان، يُنذر بعواقب وخيمة ويجعل استمرار الأوضاع على ما هي عليه مساويا للطوفان.
بدأت فكرة الإصلاح السياسي تختمر وتحتلّ مساحة من النقاش العام في دولة مثل مصر، كبديل عن السقوط وما ينجم عنه من تداعيات غامضة، أو مواصلة النظام الحالي بنفس الوتيرة من الأداء العام الذي لم يعد مقنعا لشريحة واسعة من المصريين.
السقوط قد يترتب عليه انفلات يصعب تطويقه، والإصلاح غير متوقع أن يكون دقيقا وعميقا ومجديا على أيدي من جرى اختبارهم
تحوّلت فكرة الإصلاح من الداخل إلى أزمة، لأن من اعتادوا السيطرة من الصعوبة أن يتخلّوا عنها، وإذا حدثت تطورات وظهرت ضغوط متعددة تجبر على تبنّي خطط تتواءم مع القواعد الرشيدة للحكم، قد تأتي مبتورة ما لم تكن الطبقة الحاكمة على يقين أنها السبيل الوحيد لعبور البلاد، أيّ بلد، فغالبية الأنظمة العربية بحاجة إلى إصلاحات رشيدة تتكيف مع كثير من التحركات العالمية التي تسلك طريقا شعبويّا غير منظم بالصورة الكافية.
ويضع التعويل على فكرة الإصلاح أصحابه في أزمة هيكلية، أو بين قوسين، أحدهما إيجابي، طالما اتخذ القائمون عليه خطوات حقيقية وبعيدة عن التحايل المعروف الذي تلجأ إليه بعض الحكومات للقفز فوق أشواك سياسية تراكمت أمامها، والآخر سلبيّ، يحصل من ترديد أو تبنّي أفكار إصلاحية في الخطاب المعلن على مشروعية نسبية ومزيد من الوقت لالتقاط الأنفاس، دون أن يقدّم شيئا ملموسا، ويفشل الرهان على دفع الحكومات للإصلاح، بدلا من السقوط.
كان المفكّر المصري الراحل محمد السيد سعيد، من الذين راودهم الأمل في إمكانية إصلاح نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، قبل عزله بموجب ثورة يناير 2011 بنحو عشر سنوات، ووافق الرجل على الانخراط في صفوف الحزب الوطني الحاكم وقتها، على أمل الإصلاح من الداخل، ضمن سياق عام تم الترويج له وكان يميل تجاه تعظيم فكرة الإصلاح السياسي تدريجيا، وبعد أن أعيته (سعيد) المعارضة المستمرة عن إجبار النظام وقتها على إدخال تعديلات جوهرية في المجال الديمقراطي والحريات وحقوق الإنسان.
خرج الدكتور سعيد من تجربته سريعا، ولم تستمر سوى ستة أشهر، بنتيجة تؤكد أنه لا أمل في الإصلاح من الخارج أو الداخل، وواصل مشروعه الفكري، لكن لم يفقد الأمل في سقوط نظام مبارك، لأن المجموعة التي التفت حول الحزب الحاكم، بمسميات تدعو إلى التفاؤل بالمستقبل، بدت محتكرة للحلّ والعقد في جميع الأمور، حتى فقدت دورها، وذهب توهّجها الإعلامي، وبقيت فكرة التغيير الحقيقي خاملة حتى الآن. وتحول السقوط والإصلاح إلى معضلة، تضاف إلى الأزمة الخيالية الخاصة باللجوء إلى الهدم ثم التفكير في البناء.
العرب