يظل عصر التدخلات العسكرية في المنطقة مستمرا، لكن يبدو أن الجزء العنيف فيها سوف يميل إلى التراجع ويبقى الشق الناعم متواصلا، وهو ما أكدته الهبّة الإقليمية والدولية احتجاجا واعتراضا وتحفظا على إرسال تركيا لأرتال من المعدات في شمال شرق سوريا لتشكيل منطقة آمنة بالأمر الواقع، ومطالبات عدة بانسحاب جميع القوات من الأراضي السورية، والتمهيد لإطلاق عملية سياسية متكاملة.
يصاحب ذلك، حديث متواتر حول تهدئة صراعات في منطقة الشرق الأوسط، كما هو في اليمن وليبيا، والاستجابة لضغوط الشعوب في تصويب مسارات بعض الأنظمة وتدشين مشروعات حقيقية للإصلاح السياسي، كما يجري في العراق ولبنان، وتشجيع القوى المختلفة على التدخل بالوساطة لإطفاء حرائق مشتعلة وقطع الطريق على أزمات قابلة للانفجار.
يحتل الشق الأخير جانبا من النقاشات لدى بعض الدوائر السياسية، فالقوى التقليدية المعروفة باستعداداتها للوساطة تبدلت، ودخلت عليها تعديلات جوهرية، فقد تكون هناك دولة إقليمية صغيرة وتملك من الأمنيات ما يساعدها على نزع فتيل أزمة ما، وربّما هناك قوى عظمى لها نفوذ واضح وتفتقر إلى الإرادة ولا تستطيع القيام باختراق كبير في نزاع محدود.
انعكس التغيّر في الموازين الدولية على مسألة الوساطات الإقليمية، ولم تعد لها علاقة فقط بالقوة العسكرية والسياسية الفائقة، ولا بالتراكم التاريخي، بل تلعب لغة المصالح وترتيب الأولويات الدور الحاسم، فكم دولة لها نفوذ وباع طويل من الخبرات وقدّمت مقاربات ونجحت في حل أزمات؟ وكم دولة تملك من الطموح السياسي والإمكانيات الاقتصادية وبلا قدرات عسكرية كبيرة، وتمكّنت من سدّ فجوات عميقة في بعض التوترات؟
أصبح جلب السلام بين إثيوبيا وإريتريا مؤخرا، بدعم إماراتي سعودي، إحدى العلامات والنماذج الدالة على أن القوى الإقليمية النشطة يمكنها، إذا ما أرادت وتوافرت لها الرغبة والأجواء المناسبة، تسوية أزمات مستعصية فشلت في حلحلتها بعض القوى الكبرى، وهو اتجاه تتنامى ملامحه مع تصاعد التفكير في زيادة أطر التعاون والاتجاه نحو المشروعات التنموية المشتركة؛ ما يحدث تحولات في خارطة النزاعات والدول الساعية إلى إخمادها.
أوراق الحل والعقد
احتفظت الولايات المتحدة على مدار النصف قرن المنقضي بالكثير من أوراق الحل والعقد في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدا، وكانت أدوار غالبية الدول الأوروبية تبدو قريبة منها أو تدور في فلكها مع احتفاظ بهامش ضئيل للمناورة، ولم تكن موسكو في العهد السوفييتي السابق أو الروسي الحالي، تناطحها في مجال التسويات السياسية، وهو ما شجع واشنطن على فك وتركيب الأزمات بالطريقة التي تراها مناسبة، بصرف النظر عن العدل والقانون والحقوق، فالانحيازات في القضية الفلسطينية مثلا لم تكن خافية على كثيرين.
تدفقت مياه كثيرة في هذا النهر، حتى وصلت الإدارة الأميركية الراهنة إلى حالة من العجز، قادتها إلى إيثار الابتعاد عن أزمات متباينة، وتقليل التدخلات العسكرية إلى حدود دنيا، ورافق ذلك جمود في الوساطة التي تعتمد على الحياد الظاهر والعزم على خفض سقف التوترات، خوفا من أن تؤدي إلى انعكاسات على مصالح واشنطن.
كان الحديث عن صفقة القرن من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب، أول مسمار جليّ تدقه واشنطن في نعش الوساطة الإقليمية، فتفاصيل الصفقة وتطوراتها ليست بحاجة إلى تكرار، غير أن النتيجة السلبية التي حققتها كشفت عن عدم إلمام بالواجبات المفترض أن يقوم بها الوسيط، حتى وهو يحاول محاباة طرف على حساب آخر. وخصمت الحصيلة الغامضة للصفقة من الرصيد الأميركي في مجال السلام بالمنطقة، وعززت فكرة التسلل إلى بعيد.
بوتين يتجه نحو أفريقيا والشرق الأوسط بخطوات كبيرة مستفيدا من الفراغ الذي خلفته واشنطن ومعولا على تطلعات الكثير من الدول إلى بلاده كقوة فاعلة إقليميا ودوليا
هناك سلسلة طويلة، تؤكد أن الرئيس ترامب لا يملك النية والاستعداد والإرادة للتدخل الخشن أو الناعم، وهو متسق مع أجندته التي رفعها خلال الحملة الانتخابية وتتعلق في محتواها المركزي بالمواطن الأميركي، والانسحاب التدريجي من الصراعات.
كما أن غالبية التدخلات في المجالين، الخشن والناعم، كانت عبر وسطاء، فعندما أرادت واشنطن مكافحة الإرهاب التحفت بتحالف إقليمي ودولي فضفاض، واعتمدت على دول بعينها في المنطقة، وعندما سعت إلى تدشين تسوية سياسية للأزمة في ليبيا أوحت إلى ألمانيا بالتقدم.
بدت الولايات المتحدة وكأنها تخلت عن الكثير من قناعاتها في ما يتعلق بالحرب والسلام معا، إلا عند الضرورة القصوى التي تمثل خطرا داهما على الأمن القومي الأميركي، ما أثر على رؤيتها في التعامل مع إيران، وما أفضت إليه من تذبذب استثمرته الأخيرة بالتمادي في عدم الكف عن تدخلاتها السياسية والأمنية في بعض الدول العربية.
هيّأت هذه التطورات الساحة أمام دولة أخرى، مثل روسيا، لديها من الطموحات والقدرات ما يساعدها على تعزيز نفوذها الإقليمي من خلال اللجوء إلى تعظيم الحلول السياسية، والدفع إلى اقتحام مجال المبادرات والوساطات.
اختبرت موسكو إمكانياتها في فضاءات عسكرية وسياسية كثيرة، أبرزها سوريا، وجسّت النبض حيال تبني الحل السياسي في الأزمة مع إيران، وفي جميع المحطات التي ولجتها أحرزت نجاحات بدرجات متفاوتة، لإصرارها على استكمال عوامل قوتها على المسرح العالمي، واستثمار التراجع الظاهر في الأدوار الأميركية، وما حققه من فوائد في تشجيع موسكو على المزيد من الإقدام مقابل إحجام لافت، وربّما غير مبرر من وجهة نظر البعض، في توجهات الرئيس دونالد ترامب، حتى في القضايا التي راكمت واشنطن فيها نفوذا تاريخيا.
راهنت الولايات المتحدة على إثيوبيا من قبل، كقاعدة واعدة في الحقل الاستراتيجي الأميركي، بعد سقوط نظام منغستو هيلا ماريام في بداية التسعينات من القرن الماضي، واعتقدت أنها ورثت هذه الدولة بعد أن كانت تدور في الفلك السوفييتي، وانخرطت أديس أبابا في حرب طويلة مع أسمرة، استنفذت الجانبين، ولم تتدخل واشنطن لفرض التسوية التي تريدها على إريتريا، وابتعدت رويدا عن طموحها بشأن تحويل إثيوبيا إلى رمانة ميزان في شرق أفريقيا، لأنها وجدت أن التكلفة ربّما تصبح باهظة.
دارت الأيام، وتجاوزت أديس أبابا الكثير من مصاعبها الإقليمية، لكنها دخلت في خلاف جديد مع مصر حول سدّ النهضة والآليات الفنية اللازمة لتشييده، وفي الوقت الذي دعت فيه الولايات المتحدة وزراء خارجية دول مصر وإثيوبيا والسودان، إلى عقد اجتماع في واشنطن، تلقت عليه ردا إيجابيا من القاهرة فقط، أبدت روسيا استعدادها للوساطة بين الدولتين.
لا أحد يعرف إلى أين ستصير الوساطة، لصالح واشنطن أم موسكو، أم لن يتدخل أحدهما، حيث أذاب لقاء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، على هامش القمة الروسية- الأفريقية في سوتشي مؤخرا، الكثير من الجليد السياسي، وبدت أديس أبابا غير راغبة في وجود طرف رابع في المفاوضات مع مصر والسودان.
لم يحمل التحرك السياسي الأميركي حيال أزمة سدّ النهضة رؤية محددة للوساطة، فقد اكتفى البيت الأبيض ببيان في أوائل أكتوبر يدعو الطرفين إلى التمسك بالطرق السلمية والحفاظ على حق كل دولة في التنمية دون المساس بحقوق المياه في الدولة الأخرى، وبدعوة دبلوماسية من وزارة الخارجية.
ولذلك جاء التجاوب معهما فاترا، باستثناء مصر، التي ينسجم البيان والدعوة الأميركيان مع رغبتها الملحة في وجود طرف رابع لتسهيل الوساطة، بينما استضافت روسيا لقاء السيسي- آبي، وأصدر الكرملين دعوة واضحة تؤكد الاستعداد للوساطة وتسهيل التفاهم، في خضم تحركات حثيثة تقوم بها موسكو لتفعيل دورها في القارة الأفريقية.
في كل الأحوال، يتجه الرئيس فلاديمير بوتين نحو أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط بخطوات كبيرة، مستفيدا من الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة، ومعولا على تطلعات الكثير من الدول إلى بلاده كقوة فاعلة على الساحتين الإقليمية والدولية، بعد أن جرى اختبارها في سوريا، وحققت انتصارات عسكرية، بالتوازي مع الشروع في تنفيذ رؤيتها السياسية. ما يجعلها تستعد لتدشين مقاربات متعددة في المنطقة قد تصل إلى تقديم مقاربات متماسكة في أزمات وقضايا احتكرتها طويلا الولايات المتحدة، بما يؤكد أن دور موسكو أكثر جدوى من واشنطن.
العرب