العراق واللحظة الفارقة

العراق واللحظة الفارقة

لن يشبه العراق بعد تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول ما كان قبله، فالتظاهرات الشعبية المطلبية التي انطلقت في الأول من الشهر الجاري، وتوقفت بعد قمع وحشي من السلطة وزيارة أربعينية الحسين، قبل أن تعود في الخامس والعشرين منه، غير مسبوقة في عراق ما بعد 2003، فهي المرّة الأولى التي يخرج فيها العراقيون في تظاهرات واسعة من دون أن يكون وراء تظاهراتهم تيار ديني أو سياسي، وهي المرّة الأولى التي تجابه فيها التظاهرات بكل هذا القمع الوحشي الذي أدى إلى مقتل أكثر من أربعمائة مدني عراقي وإصابة الآلاف، وفق إحصائيات رسمية. وتمثل هذه التظاهرات في بغداد وعدة مدن في الجنوب حالة وعي وطني نادرة في عراق ما بعد 2003، العراق الذي أسسته قوات الغزو الأميركي على أسس طائفية وعرقية، وأنشأت أول مؤسسة حكم فيه عام 2003، عرفت بمجلس الحكم، بعد أن قسمت مقاعدها الخمسة والعشرين بين طوائف البلاد ومكوناتها، وفقاً لنسبهم السكانية كما ادّعت، لتكون بذرة شيطانية خبيثة، أدّت إلى حروبٍ أهلية وانقسام مجتمعي، كادت أن تؤدي إلى تقسيم البلاد.
اللافت في التظاهرات أنها موجهة لتغيير نظام الحكم برمته، ليست مجرّد تظاهرات مطلبية وحسب. صحيح أنها كانت في بدايتها تسعى إلى تحقيق أهداف مطلبية واجتماعية وخدمية، إلا أن القمع الوحشي الذي جوبهت به حوّلها إلى تظاهراتٍ تطالب بتغيير كامل المنظومة الحاكمة في العراق منذ 2003. وفتح القمع الوحشي الباب أيضاً أمام تساؤلاتٍ كبيرة عن الجهة وراء قنص المتظاهرين، بعد أن أخفقت الحكومة، أو ربما خشيت، من توجيه الاتهام إلى الجهة المسؤولة، والتي، بحسب تقرير لوكالة رويترز، هي خلية أزمة يتزعّمها قيادي في مليشيا معروفة بولائها لإيران.
العملية السياسية في العراق باتت في مهب الريح، فيبدو أن العراقيين مصرّون على مواصلة انتفاضتهم حتى تحقيق ما يعتقدونه مطلبا مشروعا، تغيير العملية السياسية وتغيير الدستور والمطالبة بقانون انتخابي جديد، وتجريم الأحزاب المتهمة بعمليات قتل طائفي وفساد، ومنع أي مسؤول من الترشح للانتخابات، ناهيك بمطالب باتت ملحّة جداً تتعلق بحصر السلاح بيد الدولة وتفكيك المليشيات.
لا يقوى رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، على أن يلبي تلك المطالب، فالكل يعرف جيداً أن إيران التي تبسط نفوذها على العراق، من خلال أحزاب ومليشيات وتيارات دينية تدين لها
“كشفت مواصلة التظاهرات عن وجود سلطةٍ فوق سلطة الدولة”بالولاء، لن تضحّي بدرّة تاجها، بغداد، التي تعتبرها خط الدفاع الأول عن طهران، وبالتالي، ستصطدم تلك المطالب حتماً بحائط صد غير اعتيادي.
الجيد أن مطالب العراقيين باستعادة بلدهم ورفضهم العملية السياسية الحالية وشخوصها جاءت بالتزامن مع تظاهرات مشابهة في لبنان، تطالب بتنحية الطبقة السياسية الحاكمة، بمن فيها حسن نصر الله، بمعنى النفوذ الإيراني في لبنان. وهذا التزامن بين مطالب بيروت وبغداد ضيّق الخيارات أمام طهران، ودفعها إلى محاولة إيجاد سبل للخروج من الأزمة، لعل منها السبل التي لوّحت بها، هو التهديد بالحرب الأهلية، كما جاء على لسان نصر الله، ومن قبله عادل عبد المهدي الذي قال إن على العراقيين أن يختاروا بين الدولة أو اللادولة. وفي المقابل، يبدو أن الشعبين، العراقي واللبناني، اختارا المواصلة، ومتابعة طريق الثورة لاستعادة وطنيهما اللذيْن صادرتهما الطبقة السياسية، ومن يدعمها من دول إقليمية.
وبقدر تعلّق الأمر بالعراق، كشفت مواصلة التظاهرات عن وجود سلطةٍ فوق سلطة الدولة، سلطة تخضع سلطة الدولة لها، وهي سلطة المليشيات التي تدين بالولاء لإيران، وهو أمر لا يبدو أنه سيمر مرور الكرام على العراقيين، خصوصا بعد ما جرى من قتل وترهيب واعتقال في مختلف المدن العراقية. والعراقيون اليوم أمام لحظة فارقة لاستعادة حريتهم وكرامتهم ووطنهم، لحظة تستدعي مواصلة الحفاظ على سلمية التظاهرات، ومواصلة تحدي القمع والترهيب الحكومي والمليشياوي، فالاستمرارية ستضعف قبضة الجلاد وستدفع شرائح أخرى واسعة من العراقيين إلى الانضمام لتلك التظاهرات. والإشارة هنا بالتحديد إلى مدن غرب العراق وشماله التي لم تخرج في تظاهرات مماثلة، كونها ما زالت تلملم جراح ما تعرّضت له بعد عام من التظاهرات والاعتصامات التي نفذها أبناء تلك المدن عام 2013 وما تبعها من استباحة الحكومة وتنظيم داعش مدنهم.
أثبت العراقيون في تظاهراتهم حالة وعي وطني غير مسبوق، بعد أن تجاوزوا كل خطابات الطائفية التي سعت أحزاب وسلطات ما بعد 2003 لتكريسها، كما أنهم أكدوا من جديد أن الشعب العراقي صعب المراس، ولا يمكن أن يتم ترويضه، حتى باستخدام سلطة الدين التي تخفي وراءها زعماء أحزاب ومليشيات ورجال دين منذ 2003. وبالمطلق، لا يمكن التنبؤ بمسار الأحداث، إلا أن عمليات القمع الوحشي التي جوبهت بها التظاهرات، وبطء الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة، وانضمام شرائح جديدة من العراقيين لفئة الشباب المتظاهر، ذلك كله يدفع إلى القول إن العراق ربما يكون أمام لحظته التاريخية الفارقة التي ستؤثر، لا محالة، على مستقبله ومستقبل المنطقة.

العربي الجديد