منذ الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، انطلقت تظاهرات كبرى في العاصمة العراقية بغداد وعدة مدن أخرى في العراق، مطالبة بالقضاء على الفساد وتحسين الخدمات وتوفير فرص عمل، وهي ليست التظاهرات الأولى التي يخرج فيها الشعب ويطالب بحقوقه التي كفلها له الدستور. ومن الجدير بالذكر أن هذه الاحتجاجات هي الأكثر اتساعاً مقارنة بسابقاتها في ساحة التحرير في العاصمة، أو تلك التي شهدتها مدن أخرى في الجنوب على وجه الخصوص.
ومن المفارقات أن تلك التظاهرات اتسمت بأن معظم المشاركين فيها شباب من مناطق فقيرة مهمشة ذات غالبية شيعية، حيث اعتبر الكثير من المراقبون ذلك مؤشرا على “استياء القاعدة الشعبية الأوسع التي تعتمد عليها الحكومة في العراق حاليا”. وعلى الرغم من توقف التظاهرات بسبب تزامنها مع موعد الزيارة الأربعينية، الخاصة بالمسلمين الشيعة، إلا أنها عادت في الـ 25 من تشرين الأول/ أكتوبر واستمرت حتى الـ 29 من تشرين الأول/ أكتوبر. وقد انضم طلبة المدارس والجامعات في محافظات الوسط والجنوب إلى تلك التظاهرات، وسط قمع القوات الامنية العراقية والميليشيات التابعة لإيران.
وقد استؤنفت الاحتجاجات المميتة في العاصمة العراقية بغداد وعدة محافظات عراقية يوم الجمعة الماضي، حيث استمر المتظاهرين في تحدى الفساد الحكومي المستشري، والنخبة السياسية غير جديرة بالثقة، وانعدام الحقوق الأساسية وتزايد نفوذ القوى الإقليمية. ومن الجدير بالذكر أيضا أن جميع هؤلاء المحتجون كانوا مزيجًا من البغداديين والمواطنين من المحافظات الجنوبية.
وخلال الاحتجاجات الأخيرة في بغداد، هتف المتظاهرون ورفعوا شعارات مناهضة للفساد وإيران في ميدان التحرير، كما عبر الكثير منهم جسر الجمهورية في محاولة لدخول المنطقة الخضراء، حيث توجد الكثير من المباني الحكومية في العراق. وردا على تلك الاحتجاجات لجأت القوات الأمنية إلى استخدام القمع المفرط، حيث أطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع لإبعاد الآلاف من هذه المنطقة المشددة الحراسة، وشوهدت قنابل صوتية في العديد من مقاطع الفيديو التي تنتشر الآن على وسائل التواصل الاجتماعي والتي توثق القوة المفرطة التي تستخدمها قوات مكافحة الشغب ضد المتظاهرين. ومنذ ذلك الحين قالت لجنة حقوق الإنسان في العراق إن 32 شخصاً قد قتلوا وجرح نحو 3000 في الفترة بين 25 و26 أكتوبر وهي في تصاعد سريع ومستمر نتيجة القمع الدموي ضد المتظاهرين السلميين.
ومن الواضح أن تلك المثابرة من جانب المتظاهرين في مواجهة العنف المتصاعد تشير الى وجود فجوة متزايدة بين الحكومة والشعب، وهذا الشقاق مدفوع بالإحباط من الحكومة نفسها والقلق بشأن إعطاء الحكومة الأولوية لإيران وتفضيلها على المصالح العراقية.
ومنذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، وحتى الآن، فشلت الحكومات المتعاقبة في تحقيق المطالب الأساسية للمواطنين، وتحقيق الرفاهية المتواضعة التي يطالب بها الشعب العراقي، وهو يعيش في بلد غني بالثروات والموارد، فرغم ثرواته الهائلة، فهو بلد يعاني الفقر وعدم الاستقرار الأمني وضعف البنية التحتية، وتراجع مستوى التعليم، والصحة وباقي القطاعات الحيوية الأخرى، الأمر الذي وسع من فجوة انعدام الثقة بين الشعب والسلطة الحاكمة، بعد الوعود التي قدمتها الحكومات منذ سنين ماضية. كل ذلك دفع المواطنين للخروج إلى الشارع في تظاهرات شعبية غاضبة لم تطالب فقط بتحسين الوضع الاقتصادي بل طالبت أيضا بإسقاط النظام.
هناك بُعدا آخر في التظاهرات يتمثل في رفض الشعب العراقي للنفوذ الإيراني في العراق، خاصة بعد قيام المليشيات المدعومة من قبل إيران بفرض سيطرتها في جميع أنحاء البلاد. وفى هذا الصدد، ردد المتظاهرون هتافات “إيران بره بره، بغداد حرة حرة”. والى جانب الهتافات المعادية لإيران، قام المتظاهرون في عدة مدن بحرق مقرات بعض الأحزاب والمنظمات السياسية التابعة لإيران، كما تم حرق صور لمسؤولين دينيين ورجال دين بما في ذلك صور للمرشد الإيراني علي خامنئي. وبحسب ما ورد، تم إحراق العديد من مقرات الميليشيات ومكاتب السياسيين في المحافظات الجنوبية في بابل والديوانية وميسان وذي قار وواسط، فضلاً عن حرق مكتب المفوضية العليا للانتخابات في محافظة المثنى.
وردا على تلك الاحتجاجات لجاءت القوات الأمنية إلى استخدام القمع المفرط، واستخدام القنابل الصوتية والرصاص المطاطي والحي، والغاز المسيل للدموع، والاعتقال ضد المتظاهرين السلميين، والتي تسببت في مقتل 140 وجرح أكثر من 6000 متظاهر في عموم العراق. كما شنت قوات الأمن العراقية والمليشيات التابعة لها حملة شرسة استهدفت النشطاء والصحفيين، حيث، تعرضت عدد من وسائل الإعلام العراقية والعربية في بغداد إلى الاقتحام أو الحرق. كما تعرض مكتب قناة ” أن أر تي العراقية “، و “قناة العربية”، و ” الحدث”، و” تی آر تی ” التركية، وأخرى للاقتحام من قبل قوات الأمن والميليشيات التابعة لها، كما تعرض طاقم التلفزيون الألمانيZDF للأعتداء، وأصابه مراسل قناة السومرية العراقية هشام وسيم أثناء تأديته واجبه في تغطية التظاهرات.
وقد تحدث الصحفي حسام الكعبي إلى كاتب هذا المقال، من محافظة النجف، ويعمل في قناة أن أر تي، حيث تعرض الكعبى للتهديد من قبل جماعات مسلحة، وذلك بسبب تغطيته للمظاهرات في المحافظة، وهددته بالقتل هو وعائلته في حالة تغطيته للتظاهرات. ولم تكتف الجماعات بالتهديد اللفظي، فقط بل توجهوا إلى المنطقة التي يسكن فيها وذلك لجمع معلومات عنه، وهي رسالة تحذيرية له بأنهم يستطيعون الوصول إلى بيته، تلك أساليب الميليشيات في التهديد العناصر الفعّالة والبارزة من المجتمع العراقي.
ويواجه اليوم الكثير من النشطاء في عموم العراق التهديد والقتل من قبل الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون، ففي محافظة البصرة (جنوب العراق)، اغتيل الناشط المدني حسين عادل وزوجته سارة في منزلهما وسط المحافظة خلال هذا الشهر، وذلك على خلفية مشاركتهم في التظاهرات. وسبق إن تعرض الزوجين إلى التهديد من قبل مسلحين مجهولين بعد تظاهرات عام 2018 وسافروا إلى تركيا هرباً من القتل، حتى عادوا هذا العام، ليتم اغتيالهم على أيدي تلك الجماعات المسلحة.
وقد تداركت القوات الأمنية ” التهديد” الذي تمثله وسائل التواصل الاجتماعي وسعت لدفع الحكومة لقطع الأنترنت وفرض حظر التجوال في البلاد. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي مثل “فيس بوك” دورا بارزا في الدعوة لتلك التظاهرات، حيث استخدمه المحتجون للتنسيق في ما بينهم وتحديد أماكن التظاهرات وأوقات انطلاقها، وهو ما جعل الفيس بوك هدفًا لجهود مكافحة الاحتجاج.
إن اتخاذ تلك التدابير الوحشية علاوة على المضايقات الإعلامية، قد أكد أن فكرة أن السلطة لا زالت تفكر بطريقه بوليسية حيال قمع الحركة الاحتجاجية وتكميم الأفواه، كل ذلك يمكن أن يعزز فرضية أن الحكومة العراقية غير ملتزمة بقيم الديمقراطية ولا تأخذ منها إلا ما يتوافق وطموحات الأحزاب التابعة لها، من أجل إرضائها، ومنحها متسع أكبر من أجل مزيد من الهيمنة على السلطة وتحقيق المزيد من المكاسب على حساب المجتمع.
وقد هددت التظاهرات بشكل مباشر وصريح النظام الحاكم الحالي والأحزاب التي تتحكم في العراق، ودفعتهم لتقديم بعض التنازلات لتهدئة التظاهرات. وفى هذا الإطار، أطلق رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في 5 تشرين الأول/ أكتوبر حزمة من الإصلاحات تضمنت توفير سكن لمن لا سكن له، وتوفير فرص عمل ودعم المشاريع الصغيرة. كما دعا الرئيس العراقي، برهم صالح، إلى إجراء تعديل وزاري لتحسين أداء الحكومة بما يحقق طفرة نوعية في عملها. ومن ناحية أخرى، قال رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في خطاب متلفز إن استقالة الحكومة ستدفع البلاد إلى الفوضى، مضيفًا “لن نسمح للجماعات المسلحة بتشكيل أحزاب سياسية”.
ومع ذلك، لا تضمن تلك الإجراءات القمعية إنهاء التظاهرات على الإطلاق، في الوقت الذي يعاني العراق من ضائقة مالية كبيرة، وضعت المحتجين في شك وأزمة بين السلطة الشعب. وفي الواقع، أخفى التقرير الرسمي الصادر في 22 تشرين الأول/ أكتوبر عن اللجنة الوزارية العليا للتحقيق في أحداث المظاهرات هوية أولئك الذين كانوا وراء قتل المتظاهرين المسالمين وأخطر الانتهاكات التي ارتُكبت في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر. هذا الغياب المستمر للمساءلة أغضب العراقيين، ودفع الكثير منهم للنزول للشوارع مرة أخرى يوم الجمعة الماضي.
التظاهرات العفوية، ولأنها عفوية، وضعت الحكومة في حيرة من نفسها في كيفية التعامل معها، ومع غضب الجماهير المنتفضة ضد الفساد المستشري. وإذا كانت القيادة العراقية تأمل في إنهاء التظاهرات المستقبلية، فلن تستطيع الاستمرار في الاعتماد على توظيف العنف لمواجهتها. وعوضا عن ذلك، يجب على رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اتخاذ إجراء فوري من خلال الشروع في عمل إصلاحات جادة وتشكيل حكومة يتمتع أعضائها بالنزاهة وتكون خاضعة للمساءلة والمحاسبة من قبل الشعب العراقي.
أمام.
معهد واشنطن