المظاهرات العراقية غيّرت المعادلات السياسية، وأعادت إلى الشعب عنوان الانتماء الحقيقي الذي يتجاوز المحاصصة المذهبية، ويتمسّك بالوطن سبيلا وحيدا للهوية الجامعة. وليس صعبا على المراقب للمشهد العراقي أن يدرك أنّ أغلب الشباب في ساحات الانتفاضة كانوا حديثي الولادة عام 2003، عندما أسّس الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر «مجلس الحكم الانتقالي» ورسّخ الطائفية السياسية عنوانا لتعريف المواطن العراقي، بعد إزاحة النظام وتحطيم الدولة. فأغلب المشاركين في الاحتجاجات من أبناء هذا «النظام الجديد» الذي بُني على ولاءات مذهبية لأطراف إقليمية ودولية، ولما يقارب عقدين منذ غزو العراق وتدمير مؤسّساته، لم يستطع السياسيون الجدد تغيير أحوال الناس نحو الأفضل، بل فاقموا الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وسوء الوضع الخدماتي، ليجدوا أنفسهم هذه المرّة أمام أشكال من الإبداع الانتفاضي مغايرة للتحرّكات الاحتجاجية التي عرفها البلد بشكل متكرّر على مدى السنوات السابقة.
يرصدون شبابا غاضبا يهتف في الشوارع ضدّ الطائفية والفساد، ولا يكترث بالوازع المذهبي والمرجعيات الدينية، التي تتقاطع مصالحها مع الأحزاب في مشهد حُكم قارب 16 عاما، ولم يجنِ منه العراقيون سوى الظلم والحيف والبؤس الاجتماعي.
ويأتي الاحتقان الشعبي بالتزامن مع واقعية ثورية شبابية تطعن في السياسات التي يقودها غالبية من الشيعة، تعاظم نفوذها في العراق منذ عام 2003، وإن كان جزء من هؤلاء الشباب من الشيعة، فإنّهم ارتقوا فوق الحساسيات الدينية والانتماءات المذهبية، على غرار ما يحدث في لبنان، ويرغبون في إسقاط ورقة الطائفية، التي مازال يلوّح بها الحكّام لإسكات المتظاهرين وإخماد حراكهم، الذي لم يقبل بحزمة الوعود والإجراءات التي تقدّمها حكومة عادل عبد المهدي، ولم تُثنهِم محاولات القمع واستخدام القوّة، التي ارتقى بسببها ما يزيد عن 70 متظاهرا وأصيب المئات بجروح متفاوتة الخطورة، واعتقل ما يقرب من 1000 شخص وتعرّضوا للإهانة والضرب.
أزمة السلطة في العراق التي قامت منذ عهود مبكّرة على الأيديولوجيا الدينية، وأضاف الأمريكيون لهذا البلد أشكالا جديدة من التعاطي السياسي المتخلّف، إثر غزوهم العدواني لدولة ذات سيادة، أصبحت الطائفية الحاقدة عنوانها السياسي الأبرز، في مناخ ساده الإرهاب والاقتتال والتفجير الدموي، وبات حالة يومية تنبئ باختراقات غير محدودة لكيان الأمة ووحدة شعبها. ووجد المواطن العراقي نفسه مجرّد رافعة انتخابية لقوى طائفية تصل إلى الحكم لتخدم مصالحها الفئوية الضيقة، وعندما ينتفض مطالبا بحقوقه تُطلق عليه السلطة أو من ينوب عنها النار، بدون شفقة ولا اعتبارات إنسانية، على نحو يجعله يدرك أنّه أمام لصوص يرون في الدولة مصدرا للغنائم، ولا معنى في قواميسهم لمواطن حرّ في دولة مدنية ديمقراطية، تحترم القانون وإرادة الشعب.
الشباب العراقي يدرك جيّدا أنّ مستقبله مرتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية واستقلالية القضاء وبناء نظام سياسي صادق يكافح الفساد والطائفية
وبين حكومة ابراهيم الجعفري ونوري المالكي والعبادي وصولا إلى فترة حكم عبد المهدي تتواصل الخيبات، وتجارب الفشل المتراكم، وسياسات الفساد الذي تحتكر بسببه الأحزاب الحاكمة الثروة، مقابل تعميم الفقر وتدهور الأحوال المعيشية للسواد الأعظم من الشعب.
واليوم لم يعد بإمكان المرجعية الدينية، أو دعاة المذهب، أن يستروا عورة السلطة، أو يقفوا حاجزا أمام مطالب الناس وغضبهم المتزايد. وفي الأثناء بدل إيجاد الحلول الإصلاحية، وخدمة الشعب والوطن، يتمّ ترويج الإشاعات السخيفة من قبيل التشكيك في الانتفاضة، واعتبارها محاولة لإعادة الحكم للسنّة، وإفقاد الشيعة حقوقهم، بما فيها ممارسة طقوسهم الحسينية، تلك التي أصرّوا أن يكفلها دستور2005، وهم يعلمون أن لا خطر عليها وأنّ ممارسة العقائد تتمّ بحرية منذ عهود. فهل ابتُليت عاصمة الرشيد بهذا الحقد المذهبي والصراع الحزبي، الذي يتمّ توظيفه سياسيا بمنطق الغلبة ومنازعة السلطة طورا بطور؟ ألن تُكسر «سَورة العصبية» التي أنس بها السياسيون فأصبحوا مغلّبين لكلّ متغلِّب وطعمة لكلّ آكل، وقد ألفوا «التّرف» بالمعنى الخلدوني، وهو مفسد للخلق، بما يحصل في النفس من ألوان الشرّ والسفسفة وعوائدها؟ فسلوك النظام والتعامل الأمني مع مطالب محقّة، عجّلت باكتمال «دورة التظاهرات العراقية» التي راكمت تعبئة حركتها، واختزنت احتقانها في كلّ مرّة إلى أن وصلت لمرحلة المطالبة بتغيير النظام السياسي بهويته الطائفية وشوائبه المذهبية، وليس فقط الطعن في بعض سلوكه والضغط لتعديلها كما كان معتادا.
ويدرك المتابعون للمشهد العراقي هذه الأيام أنّ فئات الشباب التي تقود الاحتجاجات تجمعها عناوين وطنية متجانسة، عابرة للتناقضات السياسية والحزبية ولجميع الأيديولوجيات، التي أخذت بسببها الدولة مبادئ العطب، وتضعضعت أحوالها، وأصيبت بأمراض مزمنة، وليس مستغربا أمام هذا التغيّر التاريخي لواقعية الثورة ومضامينها، أن يستشعر النظام السياسي خطر سقوطه، فيعتمد القمع وسيلة للبقاء، وإن كان على صفيح ساخن وشرعيّة مهتزّة، فلا يغادر طور الاستبداد على قومه، والانفراد دونهم بالحكم الجائر، وكبحهم من التطاول للمساهمة والمشاركة، ويزعم زعمًا لا سند له إلّا التحكّم بمصائر الناس ووأد أحلامهم وطموحهم للتغيير وبناء جمهورية يحظى فيها الجميع بالأمان والعدل والكرامة.
يبدو أنّ المقاربة الحكومية لتحجيم التظاهرات، وعرقلة الاحتجاج باستخدام العنف، وإعلان حظر التجوّل، وقطع خدمات الإنترنت ليست سوى ممارسات ديكتاتورية معهودة من قبل الأنظمة السلطوية، وقد فشلت في أكثر من بلد عربي وآخرها ما حدث في السودان، عندما واجه المحتجّون آلة قمع مماثلة لم تستطع أن تخمد سلمية الاحتجاجات، التي أسقطت النظام وانتصرت إرادة الشعب في النهاية. وبدل البحث عن معالجات حقيقية للأوضاع الاقتصادية، وواقع الخدمات ونسب البطالة والفقر والتهميش وانحدار وضع الصحة والتعليم والنقل، تتمترس مثل هذه الحكومات في مواقعها، وتحاول احتواء الغضب الشعبي بشكل تكتيكي عبر القوة الأمنية أو دفع مبادرات المرجعية الدينية، أو تقديم ورقات إصلاحية في شكل استجابة جزئية لبعض المطالب، مع الحديث المتكرّر عن الحوار والتفاوض، واستخدام الإعلام الحكومي بكل الطرق التزييفية، غير متناسية خطاب الطعن في سلمية المظاهرات وإلباسها نظريات المؤامرة والاستهداف الخارجي.
ومع ذلك تتجاوب الساحات والشوارع العراقية مع نظيرتها في لبنان في شبه اتّفاق على أنّ الأمر محسوم، بإزالة رموز الطبقة السياسية الحاكمة، التي نهبت الثروة الوطنية وحرمت الفئات الواسعة من حقوقها، وأبّدت التخلّف السياسي، وساهمت في استفحال الفساد الإداري والحزبي. ولن يستقيم الأمر بتعديل حكومي، أو بتحقيق جزئي في قضايا فساد مالي، ضمن أطر المناورة والخداع. وعنف السلطة، وإن نجح في إيقاف المظاهرات فإنّ الوقائع تنبئ بتجدّدها في الأسابيع المقبلة، لأنّ الشباب العراقي يدرك جيّدا أنّ مستقبله مرتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية، واستقلالية القضاء وبناء نظام سياسي صادق يكافح الفساد وينأى بالبلد عن التأثيرات العشائرية والنزعات الطائفية.
القدس العربي