على مدى الأيام الثلاثة عشر منذ بدء الانتفاضة الشعبية في لبنان، التزم النظام الإيراني موقفا مراقبا ومحايدا، وذهب إلى اعتماد سياسة الدعوة إلى الحوار وعدم الانزلاق إلى المواجهة وضرورة أن تصغي الحكومة اللبنانية للمطالب الشعبية، وهو موقف جاء طالما كانت هذه الانتفاضة ذات منطلقات احتجاجية على الأوضاع الاقتصادية وترفع شعار المطالبة بمكافحة الفساد وإخراج الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة، وكل الشعارات المعيشية، من دون أن تذهب إلى تغليب بعض المواقف السياسية التي تطاول دورها ونفوذها في لبنان، وتلك التي تستهدف فائض الدور الذي يلعبه حليفها حزب الله في تركيبة السلطة والنظام في لبنان.
بعد إعلان الرئيس سعد الدين الحريري استقالته من رئاسة الوزراء، باتت طهران ومعها الضاحية الجنوبية أكثر حساسية تجاه المواقف التي بدأت تصدر عن بعض الأطراف والأشخاص المتصدين للشأنين العام والسياسي، والتي حصرت تصويبها على دور الحزب وإيران على الساحة اللبنانية وضرورة التخلص من سلاحه الذي وفر له أرضية الهيمنة على الدولة اللبنانية ومنها الحكومة، ما دفع الحريري للاستقالة في خطوة اعتبرتها هذه الأطراف محاولة لاستعادة دور رئاسة الحكومة ورئيسها والحد من النفوذ والتأثير الذي يمارسه الحزب أو ما يوفره من غطاء لهيمنة حلفاء له في الحكومة، والعهد خصوصا، ووزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
الحساسية الإيرانية تجاه ما تشهده الساحة العراقية أعلى مما هي عليه تجاه الساحة اللبنانية، فمروحة الخيارات في بيروت أكثر اتساعا، والخيار الأمني يقع في آخر جدول المعالجات، في حين أن الصورة معكوسة في بغداد، إذ إن الخيار الأمني يسير متقدما على خيار الإجراءات الحكومية الإصلاحية التي فرضها الشارع والضغط الذي مارسه على السلطة السياسية التي تعمل جاهدة لإنقاذ دورها وتأمين استمراريتها وإبعاد شبح “السحل” عنها، في حال تفلتت الأمور وخرجت عن السيطرة، وهو خيار قد يدفع حلفاء إيران في لبنان، في حال انزلق العراق إلى حروب شوارع شيعية- شيعية هذه المرة، لتقديم الخيار الأمني في محاولة لقطع الطريق على انزلاق لبنان إلى حرب أهلية، لفرض رؤية سياسية تعيد إنتاج الصيغة اللبنانية على معادلات ومعطيات جديدة.
القيادة الإيرانية، ومن خلال المواقف التي تحدّث عنها المرشد آية الله خامنئي في خطابه أمام طلاب الكلية العسكرية، تحمل على الاعتقاد بارتفاع منسوب القلق لدى طهران مما تشهده الساحتان اللبنانية والعراقية، وتوجيه الاتهام إلى الولايات المتحدة وإسرائيل وأجهزة مخابرات، بالوقوف وراء حالات الاحتجاج الشعبي في البلدين، الأمر الذي استدعى منه تقديم خيار التصدي الأمني مع هذه الأحداث لضبط والسيطرة على هذين الحراكين وإخراجهما من البعد المطلبي لصالح البعد السياسي والتدخل الأجنبي، معتبرا أن تثبيت الأمن يعتبر مقدمة لازمة وضرورية لتحقيق النمو الاقتصادي ويساعد على البحث عن الحلول العلاجية، مستشهدا بالتحدي الذي واجهه النظام الإيراني عام 2017 وطريقة التعامل مع الاحتجاجات التي اجتاحت نحو 100 مدينة وناحية في إيران إثر انفجار أزمة اقتصادية ومالية وانهيار شركات وبنوك على حساب مدخرات وأحلام شريحة واسعة من الطبقة الوسطى الإيرانية.
وطهران ترى أن مآلات الأزمة في كلا البلدين تختلف عن بعضها، فالأزمة اللبنانية وبناء على عدم جنوح شبابها إلى الفوضى والعنف ورفع شعار السلمية، فإنها تبدو أكثر إمكانية للتعامل معها ووضع الحلول لها، إلا أن المخاوف في الأزمة العراقية تكمن في انزلاقها نحو العنف والاشتباك، وقد تذهب نحو الصراعات القبلية والعشائرية، خصوصا وأن حدة هذا الحراك تتركز في مناطق الفرات الأوسط والجنوب الذي يتعبر خزّان العشائر والقبائل العراقية، ما يحمل طهران على الاعتقاد بأن السيناريو الذي يُحضّر للعراق يشبه السيناريو الذي تعاني منه ليبيا، وأن ما يُرسم للعراق قد يصل إلى “التقسيم” والدفع باتجاه إقامة دولتين، شيعية وأخرى سنية، وبالتالي انتقال حكومة إقليم كردستان إلى إعلان الاستقلال عن العراق. وهو ما قد يؤدي إلى اشتعال صراع داخلي بين هذه الأجزاء الثلاثة لسنوات طويلة.
وتعتقد طهران أن المطلوب في المرحلة المقبلة هو توصل القوى الأساسية الفاعلة في الساحة العراقية، خصوصا المرجعية الدينية والحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية، إلى رؤية واحدة يتفوقون عليها لمواجهة ومعالجة الأزمة التي يواجهها العراق، ما قد يساعد هذا البلد على تجنب الدخول في حرب داخلية وارتفاع وتيرة العنف الذي قد ينتهي بالوصول إلى سيناريو التقسيم.
ومن المتوقع أن تعمد طهران في الأيام المقبلة إلى تفعيل وحشد جهودها لإقناع القوى والأحزاب والمكونات العراقية الشريكة في السلطة بالقيام بخطوات عمليّة وفاعلة تعيد للحكومة دورها الفاعل في ضبط العملية السياسية وإجبارها على تقديم تنازلات قد تكون مؤلمة للجميع، خصوصا تلك التي تتعلق بالامتيازات والمكاسب والحصص التي حصلت وسيطرت عليها على مدى السنوات الماضية، وفتح المجال أمام إعطاء الطبقات الشابة والجديدة فرصة المشاركة في إدارة البلاد من خارج المحاصصة السياسية، ووقف عرقلة الحكومة في توفير فرص العمل والتوظيف والتأسيس لعملية نمو اقتصادي تنهض بالواقع العراقي الذي دمرته المحاصصات الحزبية، فضلا عن تفعيل آليات المحاسبة القضائية وملاحقة الفاسدين وناهبي الأموال العامة وتسهيل عمل الحكومة لتنفيذ كل الوعود التي أطلقتها على المديين القريب والمتوسط، والتي تستهدف الشرائح الفقيرة والشبابية.
هذه الآلية في حال استطاعت طهران الدفع لتنفيذها على الساحة العراقية، قد تشكل مقدمة لخطوتين أكثر خطورة في معالجة تداعيات الحراك الشعبي، الأولى تسهيل عملية الفرز بين القوى المعترضة على الفساد والأوضاع الاقتصادية والقوى التي تعمل ضمن أجندات سياسية، وصفها المرشد الإيراني بأنها أجندات أميركية وإسرائيلية لاستهداف إيران، ما يساعد على عملية محاصرتها وإخراجها من دائرة التأثير على الاحتجاجات وسوقها نحو الأهداف التي تريدها، بما يسهل عملية التعامل معها بالاحتواء أو العنف.
والخطوة الثانية أنها ستساعد في عملية إعادة فرز صفوف حلفائها داخل الساحة العراقية ومحاصرة القوى التي توصف بازدواجية التحالفات من دون الدخول معها في مواجهة واضحة قد تنجر إلى ميدانيّة، وذلك في إطار معركة يمكن تسميتها “تصفية الحسابات” مع هذه القوى التي عمّقت جراح الحكومة على الرغم من أنها شريكة فيها وبعضها صاحب الحصة الأكبر والأكثر تأثيرا فيها، وإيصال رسالة واضحة لها بأنها لا يمكن أن تكون وتبقى شريكة في المغانم وتتنصل من المسؤولية في الأزمات، وأن زمن دفع الأثمان هي وكل القوى الملتزمة معها قد أزف، ولا يمكن أن تتحمل التبعات وحدها وتتحمل مسؤولية ما قاموا به من عمليات فساد ونهب وتخريب تحت شعار التحالف معها.
فهل سينجح الجنرال قاسم سليماني في هذه المهمة الصعبة والمعقدة على الرغم من شبكة العلاقات التي تربطه بكل المكونات العراقية من الشمال والغرب وصولا إلى الجنوب، ويكون قادرا على إنقاذ ما تبقى من هيبة بلاده وما لديها من نفوذ في العراق؟ أم أنه سيواجه قوى متمسكة بمكتسباتها ولا تبالي إلى أين قد تصل الأمور وأي المتاهات التي قد يدخلها العراق ولسنوات لن تكون قليلة؟ وبالتزامن أيضا، هل سيستطيع أمين عام حزب الله اللبناني الحد من التداعيات السلبية للانتفاضة الشعبية التي يشهدها لبنان ضد الفساد والطبقة الحاكمة والدور المهيمن للحزب على الحياة الاقتصادية؟
الإجابة على هذين السؤالين لن تكون سهلة سلبا وإيجابا، لأن ما يتجمع في الأفق يوحي بإمكانية الانزلاق نحو مناطق خطرة قد لا يكون أي من الأطراف على الساحتين قادرا على الحد من آثارها.
اندبندت العربي