لبنان كان في حاجة إلى “إستراحة محارب” بين فصلين في معركة التغيير. وهذا ما تحقق بإعلان الرئيس سعد الحريري إستقالته وبالتالي إستقالة الحكومة بعد اعترافه بالوصول إلى “طريق مسدود” داخل السلطة لترتيب مخرج من مأزق صنعته بايديها. الإستقالة كانت على رأس المطالب المرفوعة في الثورة الشعبية السلمية التي أعادت لبنان إلى ذاته. والهرب منها بداعي الخوف من الفراغ والفوضى، كان القرار الأول للأقوياء المتحكمين بالسلطة والبلد والمصرين على إستمرار “الستاتيكو” المريح لهم والخطير على الناس في الحاضر والمستقبل. وهي إستقالة فتحت ثغرة في جدار سميك وراءه جدران وأبواب مغلقة يحتاج فتحها إلى التسليم بأن الزلزال السياسي الذي أحدثته الثورة الشعبية ليس هزة خفيفة عابرة. فلا طرف، ولو كان يوظف ما يسمه “فائض القوة” في الداخل والخارج، أقوى من قوة الساحات العابرة للطوائف والمذاهب والمناطق. ولا سلطة، مهما تكن قوتها وشرعيتها، أكبر من “سلطة الشعب” حين يمسك مصيره بيده.
ذلك أن الأولوية في مطالب الثورة الشعبية هي لإعادة تكوين السلطة كوسيلة وحيدة وجدية لتحقيق التغيير الذي يتجاوز الإصلاحات المطلوبة من الدول المانحة والمنظمات المستثمرة في “سيدر” والمخيفة لأهل الفساد ونهب المال العام. فلا تركيز على الصراع الجيوسياسي الدائر في المنطقة وعليها. ولا أوهام حول أي دعم من القوى الخارجية التي أعلنت منذ البدء أنها تفضل استمرار الوضع مع ترتيب بعض المطالب من دون أي تغيير بنيوي ومن دون فوضى تدفع النازحين السوريين صوب أوروبا.
لكن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي نظر إلى ما يدور في شوارع العراق ولبنان، فلم ير من “الشعب” سوى “الشغب” الذي تحركه أميركا وإسرائيل. وهذه تهمة جاهزة دائماً في جمهورية الملالي ضد أي حركة شعبية داخل إيران وفي المنطقة. هكذا، جرى توصيف “الحركة الخضراء” إحتجاجاً على “تزوير” الانتخابات الرئاسية لمصلحة أحمدي نجاد على حساب مير حسين موسوي، مع أن الأميركيين والأوروبيين بشكل عام لم يحتجوا حتى على قمع الناس في الشارع. وهكذا، كان توصيف الإحتجاجات المطلبية التي شملت معظم المناطق الإيرانية في العام الماضي وقبله. وهذا أيضاً ما طرحه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من خلال “معلومات” غامضة عن دور “السفارات” في الحراك الشعبي اللبناني وأسئلة عمن يدير الحراك ويموله. ولم يتردد التيار الوطني الحر في القول “إن قوى داخلية وخارجية تقاطعت مصالحها فاستغلت نقمة الناس المحقة لضرب الإستقرار ونشر الفوضى وإضعاف الحكم، وسنكون صارمين في وجه المخربين”.
والسؤال هو: هل يصح النظر إلى الانتفاضات في العراق ولبنان كأنها نسخة إقليمية من “الحركة الخضراء” الإيرانية التي أفشلها قمع “الباسيج”؟ ولماذا تتصرف طهران كأن ما يحدث في العراق ولبنان هو نوع من إشتعال النار في أطراف ثوبها الإمبراطوري الجديد؟
في بدايات “الربيع العربي” اعتبر خامنئي أن ما حدث في تونس وليبيا ومصر هو من التأثر بـ”الثورة الإسلامية” في إيران. وحين وصل الأمر إلى سوريا صار “مؤامرة إمبريالية صهيونية”. وها هو يصف الحراك الشعبي في العراق بأنه “فتنة”. ولا رد على الفتنة سوى القمع والردع. ففي بغداد وكربلاء والناصرية وأماكن عدة سقط من المتظاهرين مئات القتلى وآلاف الجرحى برصاص “قناصة” تابعين لفريق من “الحشد الشعبي” وبعض القوى الأمنية الرسمية. ومن الصعب في لبنان إطلاق النار بكثافة على المتظاهرين الذين يحميهم الجيش، فكان الحل هو الهجوم بالعصي على ساحات محددة. وهو أيضاً محاولة “تفكيك” الثورة. أولاً عبر التمييز بين العفويين وغير العفويين. وثانياً عبر إحتضان القليل من المطالب لرفض الكثير. وثالثاً عبر الدعوة إلى حصر التغيير بالمطالب الإقتصادية من دون أي مطالب سياسية، وسط “قمة التسييس” من خلال إتهام المتظاهرين بأنهم يتحركون بأوامر “السفارات”.
والترجمة العملية لذلك هي أن “الثورة المضادة” للثورة الشعبية نوع من الهجوم الدفاعي عن “محور الممانعة والمقاومة” الذي تقوده إيران. فالرأسمال السياسي والعسكري والمالي الذي وظفته طهران في العراق ولبنان كبير. وأي شيء يهدده يؤدي إلى مواجهة بالعنف، مهما يكن الثمن. أليس باسم الصراعات الإقليمية والدولية جرى تحميل لبنان قبل الحرب وخلالها وبعدها أثقال الثورة الفلسطينية ثم الثورة الإيرانية والوصاية السورية؟ ألم يحن الوقت ليرتاح هذا الوطن الصغير من صراعات المحاور، بحيث ينشغل ببناء دولة الحق والقانون ويعمل للانتقال من الاقتصاد الريعي على طريقة الكازينو إلى الاقتصاد المنتج؟
يقول العالم الفرنسي تيودور مونو إن “الصحارى هي صحارى بسبب المناخ لا بسبب التربة”. وما تفعله الثورة الشعبية السلمية هو تغيير المناخ في لبنان.
اندبندت العربي