القاهرة – قال الكاتب والمؤرخ العراقي توفيق التميمي إن العراق فقد الكثير من الوثائق والمخطوطات والآثار التي كانت مصدرا لتوثيق ذاكرة البلد، والحفاظ عليها من التلف والنسيان، مشيرا إلى أن الهوة كبيرة بين الحكومة والشعب العراقي والتظاهرات الحالية عفوية في انطلاقتها واحتجاجاتها ومطالبها.
وأشار التميمي، في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية خلال زيارة لمصر، إلى أن التاريخ لا يكتب بالمذكرات الشخصية والشهادات الشفاهية، وإنما
انطلاقا من المخطوطات الموروثة والوثائق الصحيحة والآثار العمرانية والمكانية.
ولفت إلى أن الحاجة باتت ماسة لحماية الذاكرة العراقية من ضعف الوعي العام لدى الشعب العراقي بالاهتمام بذاكرته التاريخية والشعبية والحفاظ عليها، عبر مؤسسات حكومية تحفظ للذاكرة العراقية مكانتها، وهيبتها وحقيقتها بلا تشويه، كي تقدم ناصعة للأجيال القادمة، مؤكدا على أن وجود أي شعب أو وطن بلا ذاكرة يعني أنه سيظل وطنا أو شعبا بلا هوية.
وحول جهود الحفاظ على الذاكرة الجمعية العربية، قال التميمي إن تلك الجهود تتفاوت وتتباين من بلد إلى آخر، مشيرا إلى أن مصر تحتل المركز الأول بين البلدان العربية في الحفاظ على ذاكرتها التاريخية والشعبية.
وأضاف أن المصريين نجحوا في الحفاظ على ذاكرتهم الموروثة في مختلف العصور، واحتفظوا بالمعالم والآثار التي تركها كل الغزاة، ولم يقوموا بمحوها، وحافظوا عليها كذاكرة لهم حيث ذهب الغزاة وبقيت تلك المعالم والآثار للمصريين، وأن شارع القاهرة الفاطمية ربما يظل شاهدا بكل آثاره ومعالمه ورسومه على ثلاثة عصور كانت متصارعة على أرض مصر.
شعب العراق فوجئ بأن التغيير لا يلبي طموحاتهم وأن الديمقراطية التي حلموا بها نزلت من المظلات الأميركية على أرض هشة فأنتجت حكما مشوها
التميمي، الذي جعل من الحفاظ على الذاكرة العراقية مشروعا ثقافيا خاصا له، قال إن لبنان من البلدان الأكثر تطورا والأكثر استخداما للتقنيات الحديثة في الحفاظ على الذاكرة الشعبية والتاريخية للبنانيين.
وقال إن العمل التأسيسي للذاكرة العراقية يظل حقلا شاغرا، وقد كانت هناك محاولات فردية من قبل رواد الثقافة العراقية قصد التأسيس للذاكرة العراقية قبيل عقود، ومن بين هؤلاء المؤرخ العراقي اليهودي مير بصري الذي كان من أبرز من وضع أسس توثيق الذاكرة العراقية.
ويعتبر التميمي، من خلال ما اطّلع عليه من وثائق ومخطوطات وصحف عراقية إلى جانب مخطوطات الحكومة العراقية، أن فترة العهد الملكي التي دامت 38 عاما، هي من أزهى الفترات في تاريخ العراق المعاصر، وأكثرها ثراء وخصبا.
وأشار إلى أن تلك الفترة شهدت ازدهار الحياة الاجتماعية والثقافية بالعراق، ففي بغداد وحدها كان يوجد 169 دار عرض سينمائي، وفي شارع الرشيد كان هناك 61 مكتبا للخطاطين الذين كان على رأسهم هاشم الخطاط الذي يعتبر شيخا لخطاطي العالم. وأفاد التميمي بأن الصحف والمجلات تعددت والبعثات التعليمية الخارجية انتعشت في ذلك العهد، وظهرت رموز النهضة العراقية الحديثة في الأدب والمسرح وكل فروع الثقافة والفنون، مثل رائد المسرح العراقي حقي الشبلي ورائد علم الاجتماع العربي الدكتور علي الوردي، والعلامة مصطفى جواد المتخصص في التاريخ واللغة العربية وعلومها، والمؤرخ جواد علي.
وأكد التميمي على أن المثقفين العراقيين يعملون اليوم على ترميم الذاكرة العراقية وأحداثها، وتحريرها من التشوهات الأيديولوجية الحاكمة والمحكومة، وجمع شتات ما تبقى من المخطوطات والصحف القديمة وذلك من أجل وضع تاريخ عراقي غير مزور.
وقال التميمي إنه بعد سقوط حكم صدام حسين استبشر العراقيون خيرا بدخول العراق إلى عصر جديد يشهدون فيه حكما ديمقراطيا وتداولا سلميا للسلطة، ولكن بعد مجيء الحاكم الأميركي برايمر فوجئ شعب العراق بأن التغيير لا يلبي طموحاتهم، وأن الديمقراطية التي حلموا بها “نزلت من المظلات الأميركية على أرض هشة فأنتجت حكما مشوّها”.
ولفت إلى أنه بذلك كانت أخطاء التأسيس الأولى لعملية التغيير على يد الأميركيين، كارثية، دفع ثمنها الشعب العراقي بعموم طبقاته الصغيرة والمتوسطة، موضحا أن الهوة أصبحت كبيرة بين الشعب العراقي والحكومات المتعاقبة بالبلاد.
وقال “ربما ازدادت تلك الهوة اتساعا بين الشعب والحكومة الحالية، ولم يبق أمام الشعب العراقي والنخب الثقافية إلا طريق الاحتجاج السلمي والتظاهرات الغاضبة، وهذه التظاهرات التي تجري بالعراق اليوم هي تظاهرات مختلفة ومتطورة نوعيا عن التظاهرات التي سبقتها، لأنها مظاهرات شباب حرموا من حقوقهم في الوظيفة والحرية والتعبير عن أفكاره”.
وأشار إلى أن تلك التظاهرات كانت عفوية في انطلاقتها واحتجاجاتها ومطالبها، وأنه بالرغم ممّا تواجه به التظاهرات من عنف مفرط من قبل الحكومة وأنصارها، وبالرغم من سقوط “شهداء” ومصابين كل يوم، فإن الشعب العراقي لن يكف عن المطالبة بحقوقه حتى تحقيقها كاملة.
والكاتب والمؤرخ العراقي توفيق التميمي مشغول بتوثيق الذاكرة العراقية عبر الكتب والبرامج الوثائقية التلفزيونية، وقد أصدر 10 مؤلفات تتناول أهم محطات الذاكرة العراقية خلال الفترة من 1921 وهو تاريخ تأسيس الدولة العراقية في عهد الملك فيصل وحتى نهاية العهد الجمهوري الثاني وحكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وهو يمارس الكتابة في عدد من الصحف والدوريات العراقية والعربية، إلى جانب تقديمه للبرنامج الوثائقي “سيرة في الميزان” على شاشة إحدى الفضائيات العراقية.
العرب