يكشف البحث والتحليل والتدقيق في تفاصيل أحد أهم الأحداث في تاريخ العراق، والذي كان مفصليا في تشكيل موازين القوى بمنطقة الشرق الأوسط، عن الكثير من أسرار التعاون والتآمر المشترك بين إسرائيل وإيران. ويبدو البلدان حاليا طرفين في حرب مستعرة إعلاميا، لكن الحقيقة عكس ذلك، بل تتضمن الكثير من المفارقات، فمصالح البلدين التي تقاربت في بداية ثمانينات القرن الماضي والتي جسدها هدفهما المشترك وهو ضرورة تدمير برنامج الأسلحة النووية للعراق، جعلهما ينسّقان معا ويتعاونان لتنفيذ الهجوم الجوي على مفاعل تموز العراقي، فظاهريا سلاح الجو الإسرائيلي هو الذي نفذ الهجوم، لكن إيران لعبت دورا محوريا في العملية من خلال تقديم الدعم العسكري لإسرائيل، ما جعل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يردّ على تلك العملية بتنفيذ هجوم على محطة بوشهر الكهروذرية للأبحاث النووية الإيرانية، بدلا من استهداف إسرائيل مباشرة.
لندن – تعد إيران في نظر أغلب الزعماء الأمنيين الإسرائيليين “عدوا ودودا وهي أفضل من صديق لدود” لأنه على مرّ التاريخ المعاصر لم تطلق إسرائيل رصاصة واحدة على إيران غير حربها الكلامية، وبالمثل فعلت إيران التي لم تتجاوز حدود الشعارات في “حربها” ضد إسرائيل.
وخلف هذا العداء “الصوتي” بين إيران وإسرائيل يختبئ تاريخ من التعاون والتآمر المشترك، إذ تجسّد هذا التعاون في أبرز صوره في عملية “أوبرا” العسكرية حين أطلق الطيران الحربي الإسرائيلي ضربة جوية مفاجئة استهدفت مفاعل تموز النووي العراقي في العام 1981.
لقد عاد الصحافي المتخصص في شؤون الدفاع، سيباستيان روبلين، في تحليل نشرته مجلة “ناشيونال أنترست”، إلى تقارب المصالح والتحالف بين إيران وإسرائيل وطبيعة المفارقات التي تتسم بها علاقتهما.
يقول روبلين؛ من الأسرار الخفية لعملية “أوبرا” أن إسرائيل ما كانت لتنجح لولا مساندة إيران وتعاونها معها.
وتم تنظيم تظاهرة لإحياء ذكرى الهجوم بعد 38 عاما من حدوثه، وهي العملية الذي ينظر إليها البعض على أنها “المهمة التي أعادت صنع الشرق الأوسط”، وشارك فيها الطيارون المنفذون لـ“عملية أوبرا” والذين لا يزالون على قيد الحياة. وأعاد الطيارون تمثيل الهجوم على أجهزة محاكاة للطيران.
قال هؤلاء إن “إحدى أكبر المفارقات في التاريخ هي أن الجمهورية الإسلامية في إيران ساعدت على تنفيذ هذا الهجوم”.
إيران وإسرائيل كانتا حليفتين قبل الثورة الإيرانية، وواصلت تل أبيب نقل الأسلحة وغيرها من المساعدات الأمنية إلى طهران خلال ثمانينات القرن الماضي، على الرغم من خطاب المرشد الأعلى المعادي لإسرائيل.
وكانت واشنطن تستعد لعقد صفقة كبيرة مع طهران لتزويدها بنحو 75 طائرة مقاتلة متطورة من طراز “أف-16″، لكن الإطاحة بشاه إيران محمد رضا بهلوي -الذي كان حليفا قويا للولايات المتحدة- إثر اندلاع الثورة الإسلامية التي قادها آية الله الخميني، جعل الولايات المتحدة تضطر إلى إلغاء الصفقة مع إيران وعرضها على إسرائيل التي قبلت بها دون تردد. وقال الميجر جنرال المتقاعد دافيد عيفري، قائد سلاح الجو الإسرائيلي آنذاك، في مقابلة تلفزيونية، “على الفور قلت نعم، من دون أن أسأل أحدا.. عندما يعرض عليك أحدهم أفضل طائرات مقاتلة، فأول شيء تفعله هو قول نعم.. وبعد ذلك سوف نرى”.
وقال الكولونيل المتقاعد زئيف راز، الذي قاد الغارة في 7 يونيو 1981، “حقيقة حصولنا على الطائرات بسبب الثورة الإيرانية هي إحدى أكبر المفارقات في التاريخ”.
واكتشفت إسرائيل لأول مرة أن العراق يعمل على بناء مفاعل بلوتونيوم يمكن استخدامه لصناعة أسلحة نووية في العام1977، حينها لم تكن الطائرات المقاتلة التي تملكها -وهي من طراز “أف 4 فانتوم” و”سكاي هوك”- قادرة على السفر لأكثر من 1000 ميل داخل أراضي العراق والعودة بسلام.
ولهذه الأسباب كانت الصفقة الأميركية لشراء طائرات “أف-16” فرصة ذهبية بالنسبة إلى إسرائيل لتنفيذ أهدافها. لكن لم يكن واضحا تماما ما إذا كانت هذه الطائرات الجديدة ستتمكن من الوصول إلى العراق وتنفيذ المهمة بنجاح بسبب سعة الوقود فيها، لذلك وضع سلاح الجو حلولا بديلة من أجل مضاعفة فرص النجاح.
وقبل تسعة أشهر من تنفيذ عملية “أوبرا” العسكرية الإسرائيلية التي دمرت مفاعل أوزيراك النووي العراقي، وفي فجر 30 سبتمبر 1980، حلقت 4 طائرات من طراز أف-4 إي فانتوم أميركية الصنع على ارتفاع منخفض في سماء العراق، وكانت كل واحدة منها محمّلة بقذائف جو، وثلاثة آلاف رطل من القنابل.
وثّق الكاتبان توم كوبر وفرزاد بيشوب هذه الغارة الغامضة والسياق الذي حدثت فيه في مقالة نشرتها مجلة “إير أنثوزياست” في العام 2004.
كانت إيران وإسرائيل حليفتين قبل الثورة الإيرانية، وواصلت تل أبيب نقل الأسلحة وغيرها من المساعدات الأمنية إلى طهران خلال ثمانينات القرن الماضي، على الرغم من خطاب المرشد الأعلى المعادي لإسرائيل. وكان هذا مدفوعا بالمخاوف التي جمعت بين الطرفين من عراق يحكمه صدام حسين.
وفي العام 1975، نجح العراق في التفاوض على صفقة بقيمة 300 مليون دولار (ما يعادل 1.3 مليار دولار في 2019) مع فرنسا لبناء المفاعل العراقي. وكان الاتفاق بين صدام حسين وجاك شيراك عندما كان رئيسا للحكومة الفرنسية.
وتضمن هذا المشروع بناء مفاعلين باسم تموز1 وتموز2 في منشأة التويثة للأبحاث النووية جنوب بغداد.
تم تصميم مفاعل أوزوريس لأغراض مدنية، ولكن البعض من الأطراف رأى فيه تهديدا وخشي أن يتحول إلى انطلاقة برنامج للأسلحة النووية.
ويختلف الخبراء إلى يومنا هذا حول مدى اقتراب العراق من تحقيق هذه القفزة.
نجح صدام حسين في الضغط على الفرنسيين لتسليم عشرات الكيلوغرامات من الوقود النووي المخصب بنسبة 93 بالمئة، بينما جمع كيلوغرامات من اليورانيوم من أميركا الجنوبية وأماكن أخرى.
وأزعج وجود هذا المفاعل إسرائيل التي بقيت الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تمتلك أسلحة نووية، وكذلك إيران التي صدت غزوا عراقيا بالدبابات في سنة 1975.
وقال الميجر جنرال عاموس يالدين، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية والذي كان طيارا خلال المهمة، إن “القرار الذي اتخذه بيغن (رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغين الذي أمر بتنفيذ الهجوم)، استنادا على العقيدة التي تم تأسيسها مع هذه العملية وقد سُميت في ما بعد باسمه كان كالتالي: إذا كان هناك قائد عربي يدعو إلى تدمير إسرائيل، فإن إسرائيل لن تسمح له بامتلاك أسلحة نووية”.
وسعيا لإحباط البرنامج، قصف عملاء إسرائيليون قلب مفاعل نووي اكتمل بناؤه بالقرب من مدينة تولون جنوب فرنسا، في حين طعن عملاء فرنسيون عالم الفيزياء والذّرة المصري يحيى المشدّ حتى الموت في فندق بباريس في 14 يونيو من العام 1980. ونجحت تلك الإجراءات في تأخير بناء مفاعل أوزيراك النووي بمنشأة مكشوفة، إلا أن الأعمال استؤنفت لاحقا.
وفي 22 سبتمبر 1980، شن صدام حسين غزوا واسع النطاق جنوب غرب إيران على أمل الاستفادة من الفوضى السائدة في الجمهورية المولودة من رحم الثورة الإسلامية. واستمرت الحرب الناتجة عن هذه الخطوة لمدة 8 سنوات دامية.
في هذا السياق، بدأت القوات الجوية الإيرانية بالتخطيط لشن هجوم على مفاعل أوزيراك في يونيو، ويقال إنها قررت ذلك بناء على طلب رئيس المخابرات الإسرائيلية العسكرية. حينها، كانت إسرائيل واحدة من الدول القليلة التي واصلت تزويد إيران بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية اللازمة لمحاربة العراقيين، مما جعل الغارة تحمل منافع للطرفين.
أثبت الأسطول الإيراني الكبير الذي شمل المقاتلات الأميركية “أف 4” و“أف 14” فعاليته ضد القوات العراقية خلال السنوات الأولى من الحرب العراقية الإيرانية. وانطلقت طائرات الفانتوم التي نشرتها إيران في الغارة من سرب المقاتلات الثالث والثلاثين المتمركز بالقرب من مدينة همدان الإيرانية.
واستغلت هذه الطائرات غفوة أفراد قوات الدفاع العراقي، وأسقطت قنابلها على محطة طاقة عراقية، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي في بغداد لمدة يومين حسبما ذكره كوبر. وخلال تلك الفوضى، أطلقت جميع القنابل الاثنتي عشرة في التويثة في ثوان معدودات. ولا توجد تقارير تدل على أي رد دفاعي من العراق.
وذكر بعض الشهود أنهم رأوا قنبلتين إيرانيتين ترتدان عن قبة المفاعل. وأدى الهجوم إلى اندلاع حريق هائل ما ألحق أضرارا بالأنابيب ومضخّات التبريد ومنشآت المختبرات. وانسحب المئات من الفنيين الفرنسيين والإيطاليين من المنشأة بعد الغارة، رغم أن بعضهم عاد لاحقا.
ومع ذلك، أشار تقرير استخباراتي أدته وكالة المخابرات المركزية الأميركية بحسب مصدر بقيت هويته سرية، إلى أن القصف لم يطل سوى المباني الثانوية.
وانتشرت رواية في الغرب، وإن كانت خاطئة، تدّعي أن طيارين إسرائيليين قادوا الطائرات الإيرانية في الغارة.
في 30 نوفمبر، عادت طائرة استطلاع إيرانية من طراز “آر أف 4 فانتوم” إلى المبنى بسرعة تتجاوز سرعة الصوت، والتقطت صورا لتقييم آثار الضربة. ووفقا لكوبر وبيشوب، نقلت الصور الاستخباراتية بعد ذلك في صندوق معدني إلى إسرائيل عبر طائرة بوينغ 707 كانت تستخدم لتسليم أسلحة إسرائيلية إلى طهران.
ساعدت هذه الصور الاستخباراتية الجيش الإسرائيلي على تصميم نسخة طبق الأصل للمبنى بغرض التخطيط لمهاجمته والتمرن على العملية.
ونفذ الجيش خطته النهائية في 7 يونيو 1981، بعد أن انطلقت 8 طائرات إسرائيلية من طراز “أف 16 فايتينغ فالكون”، مع 6 طائرات من طراز “أف 15 إيغل” عبر الأجواء السعودية، مستغلة فجوة في تغطية الرادار العراقي. وفي أقل من دقيقة، دمرت مقاتلات إيغل مفاعل أوزيراك بقنابل “مارك 84” الضخمة التي تزن 2000 رطل، ما أسفر عن مقتل تسعة عراقيين ومهندس فرنسي.
ووجّه صدام حسين تركيزه إلى محطة بوشهر الكهروذرية للأبحاث النووية الإيرانية، لعدم رغبته في الانتقام من إسرائيل مباشرة.
وقصفت الطائرات النفاثة العراقية، بين عامي 1984 و1987، المجمع الإيراني خمس مرات ما ألحق أضرارا كبيرة بالمنشأة التي لم تكن تستخدم كثيرا بسبب القيود المالية التي فرضتها الحرب.
وتعد غارة أوزيراك من الأحداث التي يستشهد بها في الحجج المؤيدة للضربات الاستباقية المناهضة للأسلحة النووية. ويبدو نجاح الغارة واضحا. لكن، ورغم تعطيل الجهود العراقية الرامية إلى الحصول على الأسلحة النووية لعقد كامل، يزعم بعض الخبراء أن المفاعل لم يكن مناسبا لمثل هذه الأغراض.
وفي أعقاب الغارة، بدأ صدام حسين برنامجا نوويا واسع النطاق يسعى إلى إنتاج الأسلحة في المباني المحصنة تحت الأرض. ولو لم يتحول تركيزه إلى المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة عند غزو الكويت في العام 1990، لنجح صدام حسين في حشد قوة أكبر في مجال الأسلحة النووية على المدى الطويل.
وتسببت الهزيمة التي تكبدها نظام صدام حسين في العام 1991، بالإضافة إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، في إنهاء التحالف السري بين إسرائيل وإيران، إذ اعتمدت طهران على دعمها للجماعات المعادية لإسرائيل لكسب النفوذ والتحالفات في العالم العربي، في حين أدركت إسرائيل أن إيران هي الأكثر عدائية في المنطقة.
وتكمن المفارقة هنا؛ فبعد أن كانت إيران حليفة إسرائيل في الهجمة الاستباقية التي استهدفت محطات الأبحاث النووية التابعة لدولة أخرى، أصبح برنامج إيران النووي الشامل مهددا اليوم بهجمات جوية وقائية من إسرائيل والولايات المتحدة.
ومع ذلك، تعلمت إيران من ضربات أوزيراك، ونشرت برنامج أبحاثها النووية بين العديد من المنشآت الموجودة تحت الأرض، بدلا من جمعها في مبنى مكشوف معرّض للهجوم في أي وقت.
العرب