إذا كانت أسباب احتجاج عشرات الملايين من العراقيين في بغداد ومدن الجنوب، هي بمثابة تحصيل حاصل لإخفاق الطبقة السياسية العراقية، في توفير الخدمات الأساسية والحد من البطالة والفساد، بيد إن موقف وتصريحات زعماء إيران المُعلن إزاء هذه المظاهرات وفشل الحكومة في حماية مواطنيها، من عمليات القتل والاختطاف التي تقوم بها ميليشيات قاسم سليماني، هو المؤشر الواضح الذي لا يمكن إنكاره، في المسؤولية المباشرة للنظام الإيراني عما يحدث في العراق، وتأثيره الخطير على مستقبل البلد والعراقيين. كما ان فحوى خطاب علي خامنئي وجنرالاته المعادية للانتفاضة العراقية، ودعمهم الصريح لقمعها على الطريقة نفسها المتبعة في إيران، كشف على مدى حجم هذه العلاقة وارتباطها المباشر بالمشروع الإيراني، الذي يرى من العراق جزءا لا يتجزأ من إمبراطوريتها المزعومة التي أكل عليها الزمان وشرب.
حيث تبنى النظام الإيراني منذ بداية مشروع الخميني سياسة واضحة وطويلة الأمد، حول كيفية إمكانية تصدير النظام الثيوقراطي أيديولوجيته القومية المغطاة بالعباءة الشيعية إلى المنطقة، وبأسلوب تميز بالصبر والمرونة في اختيار الأهداف، والرضوخ إلى الأمر الواقع المتمثل في عدم قدرة هذه الأيديولوجية الطائفية على الانتشار والهيمنة في منطقة الشرق الأوسط بسهولة، ما حُتم عليهم تركيزها على العراق ولبنان وسوريا واليمن، بعد ان سمحت الظروف الدولية والإقليمية، غداة عملية غزو العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وتغاضي الغرب وروسيا وسكوتهما عن النوايا الإيرانية المعلنة، وعزم النظام الإيراني بناء ترسانة سلاح تتوافق مع الأهداف التوسعية لإعادة حلم الإمبراطورية الفارسية، بعد أن تم إخراج العراق من معادلة التوازن الإقليمي وتحويله من دولة المواطنة إلى دولة المكونات.
ونتيجة لذلك استطاع المشروع الطائفي الإيراني من تثبيت أقدامه في العراق، واكتسابه بالتالي القاعدة الطائفية اللازمة للاستمرار والتوسع في بغداد ومدن الفرات الأوسط والبصرة، من خلال أذرع الميليشيات لدعم هذا المشروع الاستعماري وهيكل النظام العراقي الجديد الذي تم تمويله ودعمه سياسيا، لتسهيل مهمة تسلله إلى مؤسسات الدولة العراقية، وتحويلها بالتالي من نظام مؤسسات الحماية والخدمات للعراقيين، إلى نظام حماية وخدمة للمصالح الإيرانية واستراتيجيتها الاستعمارية في المنطقة. ليجعل في النهاية من قادة الميليشيات المدعومين من إيران أعضاء في البرلمان والحكومة، وهذا يعني خلق نظام سياسي واقتصادي تابع لإيران يسمح لأحزابها في العراق نهب ثروات النفط وابتزاز الأموال من المواطنين، لتمويل عملياتها وليحميها لاحقاً من العقوبات الأمريكية ويخفض الضغط على ميزانية إيران العسكرية الخاصة بمشروعها التوسعي.
إعاقة إعادة بناء العراق
من هنا أضحى العراق مركزا إيرانيا لتنفيذ المشروع الاستعماري ودعم مصالحه الأمنية، حيث سعت إيران إلى إعاقة إعادة بناء العراق لتعزيز موقعها الجغرافي السياسي في المنطقة على حساب خصومها، وجعله في الموقع المتقدم لاستمرار تمركزها في سوريا ولبنان بعد تحويله إلى دولة تابعة لها.
وفي غياب كامل لموقف عربي قادر على مواجهة النفوذ الإيراني لإنقاذ العراق، وبوجود تواطؤ أمريكي وغربي لاستمرار حال التقسيم الطائفي الذي فرضه مشروع الخميني لتصدير “الثورة الإسلامية” في منطقة الشرق الأوسط، تمكنت إيران منذ غزو العراق بعد عام 2003 من تعزيز موقعها الجغرافي السياسي في المنطقة وعلى حساب خصومها لتصل في نهاية المطاف في مواجهة مباشرة مع الشعب العراقي المدافع عن هويته الوطنية وحقوقه المسلوبة.
لقد كان لتبني القيادة الإيرانية الأسلوب المذهبي في عملية البناء السياسي التي فرضت على العراق، لتغيير النظام البعثي في العراق باعتباره صحوة إسلامية، في المقابل، اعتبرت طهران انتفاضة الشعب السوري ضد النظام البعثي السوري، تهديدًا خطيرًا لأمنها وعلاقتها مع نظام بشار الأسد كما هو الحال في العراق، بعد اندلاع الاحتجاجات ضد الفساد المستشري وأنظمة المحسوبية الطائفية، وعدم كفاءة الحكومة في المدن الشيعية الكبرى حيث لم يقف النظام الإيراني مع المحتجين من العرب الشيعة بل مع الفاسدين من الأحزاب التي جاءت بهم للسلطة، بإرسال قاسم سليماني إلى العراق، وحث ميليشياتها على إخماد الاحتجاجات، ومواصلة دعم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. بعد ان أصبحت الاضطرابات في العراق إشكالية لاستمرار للمصالح الإيرانية نظرا لأهمية العراق المحورية في موقف طهران الجيوسياسي في الشرق الأوسط.
الهوية الوطنية
وهذا ما أثار غضب واستياء الشارع العراقي، حيث ترجمت الاحتجاجات، التي تهز العراق، عن رفض العراقيين لاحتلال بلدهم من جهة، وفشل النظام الإيراني في استمرار أجندته في المنطقة، من خلال السياسة الطائفية التي حاول من خلالها ضمان دعم الطبقات الشيعية الكادحة في العراق، وفقدان هذه السياسة الطائفية للرؤية الاجتماعية والاقتصادية للإنسان العراقي، وعدائها الواضح لهويته الوطنية، التي حاول الإيرانيون، تهميشها وإبدالها بالهوية المذهبية، وصولا لطمسها ومن ثم إذابتها في المشروع الفارسي، مع تجاهل العامل الاجتماعي العراقي والتغيرات الداخلية والإقليمية، التي رافقت تطور موقفه الرافض في استمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية على بلده من قبل إيران، ناهيك عن تجاهل هذه الأيديولوجية لعامل الرفاهية الاجتماعية لملايين من الشباب الكادح، نتيجة للفساد الذي عانى ويعاني منه المجتمع العراقي منذ وصول أحزاب إيران للسلطة.
وعلى الرغم من ان أسباب خروج عشرات الآلاف من العراقيين في بغداد ومدن الجنوب، هي نتيجة إخفاق الطبقة النظام السياسي في توفير الخدمات الأساسية والحد من البطالة والفساد، الذي فرضتها الإيديولوجية الطائفية، بيد ان أهميتها تكمن في تطورها وتفاعلها داخل الإطار الوطني الذي دفع بالعراقيين، من خلال احساسهم الوطني، لإعادة تجانس مجتمعهم الذي مزقته الطائفية، وصولا إلى إقامة دولة الوطن والمواطنة العراقية.
ونتيجة لذلك، استطاعت الانتفاضة العراقية مجابهة المشروع الثيوقراطي الإيراني بصدور أبنائها العارية، حيث نجح الشارع في مجابهة إيران والعمل على إعادة بناء جدار العراق التاريخي العازل لوقف المشروع القومي الإيراني في المنطقة، في الوقت الذي كشفت الأحداث عن فشل النوايا والإرادات الإقليمية والدولية، صادقة كانت أم كاذبة من تقليصه في المنطقة.
من هنا، لم يعد من الممكن بقاء واستمرار النفوذ الإيراني، على الرغم من استمرار لجوء الميليشيات في قمع الاحتجاجات، من خلال المراهنة على عامل الزمن، لتحجيم وزن وأهمية الانتفاضة ومن ثم وأدها، في المقابل تسعى إيران من خلال قمع العراقيين والحفاظ على نفوذها الاستراتيجي في العراق، إلى احتواء الاحتجاجات، خشية من احتمال انتقالها ووصولها إلى المدن الإيرانية، وهذا ما قد يدفع بالنظام الإيراني إلى تطبيق نموذج القمع السوري للعراق، وهذا ما قد يشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي الإيراني نفسه، إذا أخذنا بعين الاعتبار خطورة حالة الالتماس الحدودي وحتمية انتقالها من العراق إلى إيران.
لا شك أن المعنى الحقيقي الذي ترجمته الانتفاضة العراقية من خلال رفع الإعلام العراقية، وحرق دمية رجل الدين الإيراني علي خامنئي وجنراله قاسم سليماني، ناهيك عن عمليات اضرام النار في القنصلية الإيرانية في كربلاء واتساعها لتشمل مكاتب الأحزاب والميليشيات العراقية في العديد من المدن، بمثابة ضربة كبيرة لنفوذ طهران، وإرادة العراقيين ومن ضمنهم العرب الشيعة لطرد إيران وإنهاء مشروعها الاستعماري التخريبي في العراق والمنطقة.
القدس العربي