كارل بولانيي (1886 – 1964)، المؤرخ الاقتصادي المجري، وعالم الأنثروبولوجيا الاقتصادية، والاقتصاد السياسي، والفيلسوف الاجتماعي التاريخي. من أكبر المؤرخين الاقتصاديين في القرن العشرين، و من أكثرهم عمقًا في التحليل. كان أستاذًا للافتصاد في جامعة أكسفورد، وجامعة لندن.
نشر بولاني هذا الكتاب عام 1944، وأعيد طبعه عام 1957، ثم في عام 2001، مع مقدمتين مهمتين لكل من عالم الاقتصاد جوزف ستيغليتز (الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد)، وفريد بلوك. وقد صدرت حديثًا، في كانون الثاني/ 2009، ترجمة عربية لهذا الكتاب، بقلم محمد فاضل طباخ، ونشرته المنظمة العربية للترجمة.
يحاول الكتاب دراسة التحول الكبير في الحضارة الأوروبية منذ ما قبل العالم الصناعي إلى حقبة التصنيع، والتبدلات التي جرت في الأفكار، والأيديولوجيات والسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي رافقته. مبرزًا الظروف الآنية التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، والكساد العظيم. كما يقدم تحليلًا اقتصاديًا-سياسيًا لظهور المنظومات الفاشية والشيوعية وصعودها في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. كل هذا وفق منهجية بولانيي الخاصة، المستندة إلى قراءته الواسعة للتاريخ، وعلم الإنسان، والنظرية الاجتماعية.
وتبقى الأطروحة الأساسية في الكتاب هي في إجابة بولانيي على سؤال مدى تدخل الدولة في الاقتصاد، وهل يُترك مطلق العنان للسوق لينظم نفسه بنفسه وفق آلية العرض والطلب (كما ذهب إلى ذلك أنصار الرأسمالية الأوائل)، أو ينبغي وضع قيود ما على حرية السوق المطلقة؟ حيث يبرز بولانيي نقائص الاقتصاد ذي التنظيم الذاتي (الحر)، وينتهي إلى القول بأن السوق ذات التنظيم الذاتي فاشلة عمليًا، ويقدم حلًا وسطًا فيما يتعلق بإدارة الحكومات ومدى تدخلها في إدارة السوق والاقتصاد. وهي الأطروحة التي اعتبر على أساسها بولانيي أبا الاقتصاد المختلط والمؤسس للديمقراطيات الاجتماعية.
بين كارل بولانيي وفون هايك
قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي نفس السنة التي صدر فيها كتاب بولانيي، عام 1944، صدر كتاب آخر مهم في الاقتصاد، وهو كتاب الاقتصادي المجري أيضًا فون هايك: “الطريق إلى العبودية”. وقد نحا كل من الكاتبين منحى مختلفًا في كتابيهما؛ ففيما كان بولانيي يحتفي بالعقد الأول في الولايات المتحدة منذ وضعها قيودًا على تأثير قوى السوق (إصلاحات روزفلت)، أصر هايك على أن هذه الإصلاحات قد وضعت الولايات المتحدة على منحدر مضطرب سيقود إلى خراب اقتصادي ونظام شمولي. وقد كان كتاب هايك بمثابة وثيقة إدانة أيديولوجية عنيفة ضد تجربة الاتحاد السوفيتي في تطبيق فكرة الاقتصاد المخطط، والذي يقوم أساسًا على إلغاء السوق بحكم التدخل الواسع المدى للدولة في مجرى العملية الاقتصادية.
ولكن، ماذا كان مصير كل من الكتابين بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على صدورهما؟
لقد صدقت نبوءة كتاب هايك؛ حيث سقط الاتحاد السوفيتي الذي هاجمه بشدة بالفعل، عام 1989؛ وبالتالي انتهت قصة كتاب هايك الذي أدى دوره بكفاءة عظيمة في الصراع الأيديولوجي العنيف بين الشيوعية والرأسمالية. أما كتاب بولانيي فكان من المفروض أن يسقط من ذاكرة التاريخ بحكم فشل نبوءته في سقوط نظام السوق؛ وذلك لأننا نعيش في حقبة الازدهار لفكرة السوق الرأسمالي الحر، وخصوصًا في ظل الليبرالية الجديدة التي أصبحت هي الأيديولوجية الاقتصادية السائدة في بداية القرن الحادي والعشرين. غير أن واقع الأمر خلاف ذلك؛ حيث برزت تناقضات الرأسمالية المعاصرة (والتي تجلت في التاتشرية، والريجانية، والليبرالية الجديدة، وما أطلق عليه “توافق واشنطن”)، وظهرت سلبياتها العميقة في التطبيق، وهو ما أدى إلى مهاجمتها من وجهات نظر متعددة. وقد بنيت الانتقادات على أساس أن العولمة الرأسمالية أدت إلى عمليات إقصاء اجتماعي لطبقات عريضة واسعة المدى؛ بل أدت إلى تهميش عديد من البلاد النامية في إطار الدورة الرأسمالية العالمية. وهكذا، حدثت عملية إحياء فكري واسعة المدى لفكر كارل بولانيي، وكتابه “التحول الكبير”؛ بحكم أنه كان الرائد الفكري الذي سبق له أن انتقد بعنف فكرة السوق الرأسمالي، وبشر بسقوطه بالمعنى التاريخي للكلمة.
فما هو جوهر نقد بولانيي لليبرالية الاقتصادية والسوق الحر؟
المشكلة: ليبرالية السوق وفصل الاقتصاد عن المجتمع
يخصص بولانيي جزءًا مهمًا من الكتاب لمناقشة نظريات الاقتصاديين الكلاسيكيين، من مالثوس، وريكاردو، إلى بينثام، وآدم سميث. وهو يناقشهم وينقدهم في أهم ما جاءوا به، وهو تأكيدهم على فصل السوق عن الدولة، وجعله فوق المجتمع، باعتباره فضاءً اقتصاديًا مستقلًا، يقوم على أساس آلية العرض والطلب، تحركه “اليد الخفية”؛ حيث ينظر بولانيي إلى السوق باعتباره جزءًا من اقتصاد أشمل، والاقتصاد الأشمل باعتباره جزءًا من مجتمع أشمل.
وخلافًا للطرح الليبرالي، يرى بولانيي أن توسيع دور الحكومات، ووضع الضوابط على حركة السوق، يمكن أن يكون بداية لحقبة من الحرية. أما فصل الاقتصاد عن السياسة وجعله فوق المجتمع، فله الآثار والعواقب الاجتماعية الوخيمة؛ حيث يؤدي التركيز على الربح والتراكم الرأسمالي في حد ذاته، وتجاهل الآثار الاجتماعية السلبية، سواء في مجال البطالة أو ازدياد الفقر، إلى زيادة معدلات التفكك الاجتماعي؛ وبالتالي ارتفاع مستويات العنف والجريمة.
المشكلة إذًا -بالنسبة لبولانيي- في اقتصاد السوق الحرة، أن الأصحاب رؤوس الأموال تركيزهم فقط على الربح، دون النظر إلى أي عواقب وآثار اجتماعية مترتبة على سياساتهم وبرامجهم (التي لا تتدخل الحكومات في ضبطها)؛ بل إن منطق الربح ينتهي إلى اختزال حتى الكائنات البشرية والبيئة الطبيعية إلى مجرد سلع، تباع وتشترى. وهو ما نراه اليوم في التأخر في التعامل مع ظاهرة خطيرة كالاحتباس الحراري، أو في المتاجرة بالبشر والتجارة النامية بالأعضاء البشرية.
وفي النهاية، يرى بولانيي، بأن اشتداد حالات السخط تدفع النظام الاجتماعي إلى منحدرات خطيرة، يلجأ على إثرها القادة السياسيون إلى افتعال الحروب، الأهلية أو الخارجية. وهكذا، فإن تصور الليبراليين لن يؤدي إلى السلام كما اعتقدوا؛ بل إلى نزاعات مريرة. و يؤكد بولانيي هنا أن دورة الصراع يمكن إيقافها، ولكن، من خلال “تدخل الدولة”، ويستشهد على ذلك بإصلاحات روزفلت في الولايات المتحدة (التي جاء الكتاب بعد مرور عقد عليها)؛ حيث وضع مجموعة من الآليات يمكن بواسطتها حماية الإنسان والطبيعة من ضغط قوى السوق عليها، كان منها تقرير حماية المسنين بالاعتماد على الضمان الاجتماعي، وتوسيع حقوق الطبقة العاملة من خلال تشكيل اتحادات فعالة.
إجابة بولانيي
نعود الآن إلى سؤال “مدى وحدود تدخل الدولة في الاقتصاد”؛ حيث تبدو إجابة بولانيي -بعد الوقوف على نقده للاقتصاد الحر- بأن الدولة يجب أن تتدخل في السوق، وهذا التدخل -بالنسبة لبولانيي- يكون من خلال إدارة السلع الزائفة (العمل، والأرض، والمال، وسيأتي توضيح معنى وسبب وصفه لها بالزائفة)، وهو ما يتم من خلال أداء دور مستمر في ضبط عرض المال والقروض لتجنب مخاطر التضخم والانكماش (إدارة المال). وكذلك، فإن على الدولة أن تقدم العون في فترات البطالة، وأن تتحكم في تدفق المهاجرين (إدارة العمل). أما فيما يتعلق بالأرض، فعلى الحكومات الحفاظ باستمرار على إنتاج الغذاء بمختلف الوسائل التي تحمي المزارعين من الضغوط الناجمة عن تقلب المواسم الزراعية؛ وبالتالي الأسعار. وسن التشريعات بشأن الأراضي في المدن. وباختصار، فإن دور الدولة -في إدارة السلع الزائفة خاصة- يجعل من المستحيل قطعًا تحقيق منظور ليبرالية السوق بأن تبقى الدولة خارج الاقتصاد.
ولكي يدعم بولانيي أطروحته؛ يعمد إلى قراءته الموسعة للتاريخ السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي للحضارة الأوروبية الحديثة؛ حيث يجعل أدلته حول ثلاثة محاور: سلم المئة عام، والسلع الوهمية، ومعيار الذهب.
سلم المئة عام
يرى بولانيي أن القرن التاسع عشر أنتج ظاهرة لم يسمع بها في تاريخ الحضارة الغربية، وهي سلم المئة عام، من نهاية الحروب النابليونية إلى وقوع الحرب العالمية الأولى (1815 – 1914)، بالنسبة لبولانيي فإن هذا السلم لم يكن ناتجًا لانعدام أسباب النزاع؛ بل يعود إلى ما يسميه “التمويل العالي المستوى”، ويقصد به المؤسسات المالية الكبيرة (والمرتبطة بالدول) التي تقوم بإقراض المؤسسات الأخرى والدول، وتمارس نوعًا من السيطرة عليها؛ مما هيَّأ الوسائل لإقامة نظام سلم عالمي. بالإضافة إلى السلام داخل البلدان (في فترة كانت الطبقات الوسطى قوى ثورية تهدد السلم)؛ حيث ضربت عادة توظيف المال في الأسواق الداخلية بجذورها أيضًا.
وهكذا، فإن تنظيم الحياة الاقتصادية (من قبل الدولة) من خلال ضخ المال في الأسواق الداخلية والخارجية هيَّأ الأرضية للسلم؛ حيث كان على “التمويل العالي” أن يتصدى للطموحات المتنازعة ولدسائس القوى العظمى؛ حيث كانت القروض وتجديدها متوقفين على الائتمان، والائتمان متوقف على حسن السيرة والسلوك، ونتيجة لذلك لم يصادف أي وقت لم تتمثل فيه الرغبة في السلام في مجالس المجموعة الأوروبية. ويستشهد بولانيي هنا باندلاع حرب القرم (1875)، حين تخلفت تركيا عن دفع التزاماتها المالية، وعندما وُقعت معاهدة برلين عاد السلم مجددًا.
السلع الوهمية الثلاث
السلعة عد بولانيي هي الشيء الذي ينتج بغرض البيع في سوق ما. وهذا هو أساس التمييز عنده بين السلعة الحقيقية والسلعة الوهمية. وبناءً علية؛ فقد اعتبر الأرض، والعمل، والمال، سلعًا وهمية؛ لأنها لا تنتج كي تباع في السوق .أما اعتبارها سلعًا، فهو ما لم يحدث -بحسب بولانيي- في المجتمعات الإنسانية عبر تاريخ البشرية، إلا في زمن “السوق الحر”. ويعتبر بولانيي بأن انطلاق الاقتصاد الحديث من اعتبار هذه السلع سلعًا حقيقية، خاطئ وله مخاطر كبيرة على المجتمع.
فيما يخص العمل، يؤكد بولانيي بأنه قد ثبت أن تحويله إلى سلعة كان كارثيًا؛ حيث إن فصل العمل عن بقية فعاليات الحياة وإخضاعه لقوانين السوق، عنى فقدان العمال لحقوقهم، وهو ما انتهى بالعمل لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة. يقول بولانيي: “إن عملية اغتراب الكائنات البشرية عن وسائل الإنتاج أجبرهم على بيع قوة عملهم أو أن يجوعوا. هكذا أصبح عملهم سلعة”.
أما فيما يتعلق بالأرض، فهي عنصر من الطبيعة، و قد كانت مرتبطة عبر التاريخ بشكل وثيق بالمؤسسات الإنسانية. ولكنها أصبحت مع الرأسمالية واقعة في نطاق السوق، وأصبحت سلعة مرتبطة بإنتاج المواد الخام للمصانع، والغذاء للعمال الذين يعملون هناك. يؤكد بولانيي على أن الوظيفة الاقتصادية للأرض ليست إلا واحدة من الوظائف العديدة الحيوية للأرض: “إنها تمنح الاستقرار لحياة الإنسان، إنها مكان سكناه، وهي شرط سلامته الجسدية”. ويعتبر بأن عزلها وتحويلها إلى سلعة قد عاد بنتائج بعيدة الأثر، مستشهدًا بما حل في بقاع الهند وغيرها من المستعمرات؛ حيث بذل المستعمرون كل ما بوسعهم لتدمير النظام الاجتماعي والثقافي للشعوب المستعمرة، في سبيل “تسليع الأرض”.
أما فيما يتعلق بالمال، فيؤكد بولانيي على ضرورة أن تقوم الدولة بدور مستمر في ضبط عرض المال والقروض لتجنب مخاطر التضخم والانكماش، وتقديم العون في فترات البطالة، وهو ما يتعارض مع مبادئ السوق الحرة، القائمة على فصل السياسة عن الاقتصاد.
معيار الذهب
يرى بولانيي في معيار الذهب ابتكارًا مؤسساتيًا وضع نظرية الأسواق ذات التنظيم الذاتي موضع التطبيق. فإذا ما وقع أحد البلدان في عجز مالي نتيجة إنفاق مواطنيه في الخارج أكثر مما جنوه، فإن الذهب يخرج من احتياطه ليسدد الدفعات المستحقة للأجانب؛ فينخفض بصورة آلية عرض المال والقروض داخليًا وترتفع معدلات الفائدة، وتنخفض الأسعار والأجور، ويقل الطلب على المستوردات، وهكذا يسوى عجز البلد الاقتصادي ذاتيًا من غير تدخل من الحكومة.
ولكن، بولانيي يؤكد أن معيار الذهب الذي حلم به ليبراليو السوق كآلية تفتح مجال العالم للازدهار، انتهى على عكس ذلك؛ حيث يرى بأن ثمة مخاطر كبيرة ناجمة عن العمل به، وذلك أن القواعد البسيطة لمعيار الذهب فرضت على الناس أكلافًا اقتصادية لا تحتمل، فعندما تنحرف هيكلية الأسعار لبلد ما عن مستويات الأسعار عالميًا، فإن الوسيلة الوحيدة المشروعة لذلك البلد ليتحكم بنزيف احتياطه من الذهب هي “الانكماش”، وهذا يعني السماح لاقتصاده بأن يتقلص حتى يقلل انخفاض الأجور من الاستهلاك بما يكفي لاستعادة التوازن في الخارج.
وقد أرغمت صدمات معيار الذهب الأمم على تحقيق نفسها ضمن حدود منيعة. وحتى عندما انهار هذا النظام عند وقوع الحرب العالمية الأولى، سعى المسؤولون في مختلف الدول لاسترجاعه، وأعيد العمل به في عشرينيات و ثلاثينيات القرن العشرين عندما أرغمت الأمم على الخيار بين حماية معدل التبادل وبين حماية مواطنيها، وكان من خلال هذا المأزق أن ظهرت الفاشية، التي جاءت لكي تحمي المجتمع من أخطار السوق عبر التضحية بحرية الإنسان.
التحول الكبير: صعود الفاشية
إذا كان “التحول الكبير” الأول الذي يعنيه بولانيي في كتابه هو صعود ليبرالية السوق (التي لم يعرف لها نظير في تاريخ البشر) فإن هذا التحول انتهى إلى “التحول الكبير” الثاني، وهو: صعود الفاشية. و أما السبب، فهو بتعبير بولانيي: “ليبرالية السوق قد أدت إلى ظهور رد فعل معاكس وحتمي من جانب المجتمع لحماية نفسه من الآثار الوخيمة للسوق ومقاومة محاولتها الهيمنة على المجتمع”.
لقد كشفت أزمة نظام السوق ذاتي التنظيم عن نفسها في الحرب العالمية الأولى، مع انهيار الذهب كمعيار، والكساد العظيم. أي إن القانون الذي يقول إن العرض يخلق الطلب الخاص به وعقيدة السوق ذاتية التنظيم، المنفصلة تمامًا عن المجتمع، قد انهار. وبينما كان العقد الجديد مجرد محاولة للتعامل مع هذا الوضع، كانت المحاولتان الأخرتان هما التخطيط وتدخل الدولة، والفاشية.
لقد تعلقت هيمنة الفاشية مباشرة بصحة نظام السوق. بين عامي 1917 – 1923 عندما كان نظام السوق في وضع جيد، لم تكن هناك حاجة لمساعدتها لضبط الأمور. لقد بقيت غير متطورة رغم أن الحكومات قد نشدت خدماتها أحيانًا للحفاظ على القانون والنظام بسحق القوى التي تهدف إلى تغيير النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم. في فترة 1924 – 1929 عندما بدا أن استعادة نظام السوق غير مؤكد، تراجعت الفاشية كقوة سياسية على الإجمال.
ولكن، وبعد عام 1930 كان نظام السوق في أزمة عامة، وأصبحت الفاشية خلال عدة سنوات قوة دولية؛ حيث طرحت في تلك الفترة بديلًا عن النظام الصناعي، يقوم على التخلي عن السوق ذاتية التنظيم. هكذا، فإن الأنظمة الناشئة للفاشية والاشتراكية، كانت متشابهة فقط في التخلي عن مبادئ سياسة عدم التدخل.
بولانيي اليوم
بعد ظهور كتاب بولانيي بفترة قصيرة، بدأت الحرب الباردة وكان الصراع بين الرأسمالية مقابل الاشتراكية (على النمط السوفيتي)، ولم يكن كتابه وثيق الصلة بذلك النزاع. ولكن، بعد نهاية الحرب الباردة، عندما بدأ صعود وفرض الليبرالية الجديدة التي تستند إلى “إجماع واشنطن”، عاد استحضار “التحول الكبير”.
ورغم أن بولانيي قد مات في عام 1964 قبل ظهور الليبرالية الجديدة بكثير؛ فإنه قد تنبأ بالنتائج الكارثية لها في وقت مبكر، منذ عشرينيات القرن الماضي. وهو ما أدى إلى إحياء فكر بولاني من جديد، خصوصًا من قبل خصوم الليبرالية الجديدة الذين رأوا في تحليلاته المبكرة ما يؤيد اعتراضاتهم على الآثار السلبية الكبيرة للعولمة الاقتصادية، سواء داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ذاتها؛ إذ همشت طبقات اجتماعية متعددة، أو في صميم المجتمعات النامية التي تم إقصاؤها، من الدورة الاقتصادية العالمية المنتجة، وتحويلها إلى مجرد سوق للاقتصادات العالمية.
مع بولانيي يسقط الادعاء بعدم وجود بديل عن النيوليبرالية. فالبديل يكمن في “إجابة بولانيي”: مزيج من الاشتراكية والديمقراطية، من خلال توسيع دور الحكومة سواء محليًا أو عالميًا. ويمكننا القول بأن ضخامة الأموال التي ضختها الحكومة الأمريكية (حوالى 750 بليون دولار) لإنقاذ البنوك والمؤسسات الرأسمالية، بعد الأزمة الأخيرة في عام 2008، ولجوء بعض الدول مثل بريطانيا للتأميم الجزئي لبعض المصارف، هو بمثابة استجابة لما دعا إليه بولانيي.
نقد بولانيي
عاش فون هايك (توفي عام 1992) إلى أن شهد نهاية المعسكر الاشتراكي والتحولات الاقتصادية الكبرى، المتمثلة في صعود الليبرالية الجديدة في الثمانينيات، وقد كان هو المؤثر في أهم منظريها: ميلتون فريدمان. وكان في طليعة من تصدى لعملية إحياء فكر غريمه كارل بولانيي.
وقد كتب هايك في نقد بولانيي عدة مقالات، كان جوهر ما جاء فيها اعتباره أن السنوات التي جرت فيها الحرب العالمية الثانية مثلت حقبة سادها خوف عظيم، وأن كتاب بولانيي “التحول الكبير” كتب في سياق هذا الخوف والفزع، بالإضافة إلى إثباته أن المعالجة الأيديولوجية وليست العلمية هي التي سيطرت على الكتاب.
يحاول هايك أن يفند حجج بولانيي على أساس أنها لا تستند إلى معطيات تاريخية صحيحة، ولا إلى تحليل اقتصادي دقيق؛ حيث يفند الأمثلة التاريخية التي استند إليها خصوصًا فيما يتعلق بتشريحه لظاهرة الاستغلال الرأسمالي في بلد مثل الهند. بالإضافة إلى نقده للنزعة غير العلمية لبولاني في مجال التغني بالتماسك الاجتماعي في المجتمعات ما قبل الرأسمالية.
وأيًا ما كان الأمر، فإن عملية إحياء فكر بولانيي لم تتوقف عند حدود نقد فكرة السوق الرأسمالي، والاستناد إليها في مجال نقد العولمة الاقتصادية الراهنة، ولكنها تعدت ذلك بكثير لتكون أساسًا لعملية البحث عن نظام عالمي جديد، لا مجرد إصلاحات اقتصادية عابرة.
خالد بشير – التقرير