الاتفاق النووي.. النجاح والمعضلات

الاتفاق النووي.. النجاح والمعضلات

usa-iran-nuclear-agreement-5khtawat-com
الاتفاق بين إيران والدول الكبرى، حدث مهم وتطور له شأن، وستكون له آثار في مستقبل العلاقات الدولية، ولكنه، في ظني وفي الوقت الراهن على الأقل، ليس هو الحدث الذي يستحق هذا الاهتمام الجارف. على كل حال ليس من المستبعد أن يكون المفاوضون الكبار اختاروا أن يصاحب المفاوضات هذا الضجيج الهائل والتعبئة الإعلامية والسياسية الشاملة، ليحقق الاتفاق، خلال التفاوض عليه وبعد التوصل إليه، أهدافاً أخرى تخدم مصالح لم يعلن عنها.
بتضخيم الحدث والمبالغة في تصوير صعوباته خلال المفاوضات، أو بدونهما، تبقى حقيقة لا جدال فيها وهي أن مفاوضات مهمة جرت بين دول هي الأقوى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ودولة عادية القوة من دول العالم النامي. كان موضوع الخلاف شكوكاً قوية لدى القوى الكبرى في أن تتمكن الدولة عادية القوة من أن تتحول إلى قوة نووية. تبقى قائمة حقيقة أخرى، وهي أنه بالرغم من الاختلافات الشاسعة في القوة المادية للمتفاوضين، استطاع أطراف التفاوض التوصل إلى اتفاق الأمر الذي يستنتج أهمية دور القوة غير الملموسة وغير المادية في عمليات التفاوض. تبقى حقيقة ثالثة سوف تفرض نفسها على جمهرة الباحثين في مراكز العصف الفكري، وعلى مناهج تدريب الدبلوماسيين وعلى المهتمين بالسياسة الخارجية، وهي ما كشفت عنه هذه المفاوضات تحديداً عن تعدد مهارات التفاوض لدى المفاوضين المباشرين والمفاوضين من مكاتبهم على مسافة مئات أو آلاف الأميال. أتصور كذلك أن حقيقة رابعة تجلت فور التوقيع على الاتفاق، وهي أن معضلات عدة نشأت وأخرى على أهبة أن تتفاقم. أغلب الظن أن هذه المعضلات سوف تهيمن على كثير من تطورات الأمور في الشرق الأوسط خاصة، وأنماط التحالفات الدولية بشكل عام.
تعددت الاجتهادات حول الظروف التي ساعدت على نجاح المفاوضات بين إيران والدول الكبرى، وأعتقد ان بعض ما ورد من اجتهادات يستحق بالفعل الاهتمام باعتبار أن فيه ما يتعلق بظروف قد تستمر، ومنه ما يعلن انتهاء مرحلة أو حالة. أبرز هذه الاجتهادات الاعتقاد بأن أوباما استطاع ببراعة «تجييش» المفاوضات مع إيران كوسيلة حرم بها «إسرائيل» من القدرة والوقت على تحشيد عواصم الغرب لشن حرب على إيران. أوباما في هذا الاجتهاد ليس أوباما الشخص، ولكنه المرحلة التاريخية في تطور الدور الأمريكي في العالم، وهو التعبير الصريح عن الحاجة الملموسة لإجراء تعديلات جوهرية في الفكر السياسي الأمريكي. أما أوباما الزعيم، أو أوباما الشخص، فلعله بالفعل أراد أن يحقق تسوية «إسرائيلية» فلسطينية وكان فشله فيها دافعاً له ليتوصل إلى إنجاز آخر في موضوعات أخرى، فكانت ميانمار ثم كوبا وفي النهاية إيران، وهنا في هذه الأخيرة غلبه ولا شك الشعور بالرضا لأنه الموضوع الأقرب صلة بالقضية الفلسطينية، ويستطيع من خلاله التعويض عن أشد إهانة تلقاها رئيس أمريكي على يد رئيس حكومة دولة صغيرة، حين تطاول نتنياهو وقفز في اتجاه الكونغرس متجاوزاً مكانة الرئيس الأمريكي
ربما ما كان يمكن لأوباما أن يتوصل لهذا الاتفاق مع إيران لو لم يكن العقل الاستراتيجي الأمريكي قد اتخذ قراره بالانسحاب من الشرق الأوسط، أو على الأقل تخفيض درجة الاهتمام به. وربما ما كان يمكن التوصل لاتفاق بهذه السرعة النسبية لو حاولت روسيا وضع عراقيل خلال المفاوضات. فقد كان واضحاً منذ البداية أن لروسيا مصلحة قوية في أن يتوصل الغرب إلى اتفاق تتوقف بموجبه العقوبات المفروضة على إيران وتعود دولة فاعلة في النظام الدولي. أدركت روسيا بعد طول معاناة ان إيران يمكن أن تكون مفيدة إذا أصبح لها دور في علاقات إقليم وسط آسيا وفى صنع مستقبل أفغانستان واستقرار جنوب القوقاز.
لم يكن خافياً على المفاوضين الإيرانيين حاجة دول عدة إلى التوصل إلى اتفاق بين الدول الغربية وإيران. روسيا ليست الوحيدة التي تطلعت بنهم شديد إلى التدفقات المالية التي سوف تنتج عن الاتفاقية، فقد اصطفت دول وقوى وشركات أملاً في أن تحظى بالأسبقية في سباقات الاستثمار والقروض وتمويل المشروعات. نحن مثلاً رغم بعد المسافة التي تفصلنا عن قاعات التفاوض لم نفاجأ بالوفد الألماني الجاهز بحقائبه للسفر إلى طهران في اللحظة التالية لتوقيع الاتفاق.
ليس خافياً أيضاً ما توصل إليه تيار من التيارات الأكاديمية الأمريكية منذ سنوات من أن الخطر الماثل لمصالح أمريكا وأمن مواقعها في الشرق الأوسط آت من الجانب السني وليس من الجانب الشيعي، كما التصور الذي ساد وهيمن في عواصم عدة. يعود الفضل في هذا التحول، في جانب منه على الأقل، إلى جماعة «المحافظون الجدد» إذ كانوا أول من دعا إلى إعادة رسم الخريطة الديمغرافية في العراق أولاً، ثم في بقية دول الهلال الخصيب لمصلحة الطوائف غير السنية. أتصور أن هذا الاجتهاد تحديداً لم يجد أنصاراً كثيرين إلا بعد أن هيمن التشدد الديني والإرهاب على معظم أنحاء الشرق الأوسط.
إن نسينا أو تجاهلنا بعض أسباب نجاح المفاوضات، فلن ننسى أو نتجاهل المستوى الرفيع لكفاءة المفاوضين، وبخاصة الإيراني والأمريكي. يحسب مثلاً، للوزير جون كيري أنه قضى ثمانية عشر يوماً يفاوض من دون انقطاع، ومن ورائه في واشنطن الرئيس أوباما يتابع ساعة بساعة، وهي المدة التي تزيد عشرة أيام على المدة التي استغرقتها مفاوضات يالتا، ويوماً واحداً عن المدة التي استغرقتها مفاوضات بوتسدام، وكلاهما انعقدت خلال الحرب استعداداً لنظام عالمي جديد. كفاءة من دون شك وصبر وصمود وعناد في ظل ظروف تفاوض قاسية، ليس أقلها قسوة تهديدات مستمرة بحرب «إسرائيلية» يمكن أن ينجر إليها الغرب، وعقوبات اقتصادية مرهقة وحرب أعصاب إعلامية عنيفة، وتوتر إقليمي تصاعد فجأة عندما تسارعت وتيرة الأمل لدى أطراف التفاوض بإمكان التوصل إلى اتفاق وشيك.
إن التوصل إلى اتفاق لا يعني التوصل تلقائياً وبالضرورة إلى نهاية سعيدة لأزمات ومشكلات عدة في الشرق الأوسط تعتبر إيران والغرب أطرافاً أساسية فيها. أبدأ هنا بالمعضلة المصرية، ليس فقط لأن كاتب هذه السطور مصري، ولكن لاعتقادي الراسخ ان «المسألة المصرية»، وأقصد حال تراوح مصر بين الثورة وبعض تداعياتها باقٍ معنا من دون حسم لأجل غير قصير. ما يهمنا تحديداً ونحن لانزال في إطار الاتفاق الإيراني هو الاحتمال الكبير أن تكون إيران عادت تأمل في أن تلعب مصر دوراً في التهدئة وتخفيف حدة التوتر، لتتيح لها، أي لإيران، فرصة المساهمة في حوار إقليمي متعدد الأطراف. لا أعرف تماماً وبالدقة الواجبة إن كانت القيادة الإيرانية تضع معضلة مصر في صدارة المعضلات المترتبة على توقيع الاتفاق والمتفاقمة بسببه، ولكني أتصور أنها خلال تأهلها لدور مهم في صنع نظام إقليمي جديد سوف تضع في حساباتها موقف مصر، ورأي مصر ودور مصر، متمنية أن تكون حكومة مصر قد أصبح لها حينذاك هذا الموقف والرأي والدور.
المعضلة الثانية، وستظل معضلة لفترة غير قصيرة، هي الإرهاب. لن تستطيع إيران في ظل أي وضع جديد يفرزه الاتفاق أن تعطى ظهرها للإرهاب. المثير في هذه المعضلة، ومصدر ارتباك كثير من المجتهدين، هو انتظار اللحظة التي تنجح فيها أمريكا في إنشاء تحالف فارسي عربي، أو باللغة الدارجة حالياً وعن تعمد واضح، تحالف شيعي سني، لمحاربة إرهاب «داعش» . لا أتصور أن المفاوض الأمريكي، مهما بلغت درجة مهارته وكفاءته، قادر على إقناع إيران عقد تحالفات مع القاعدة والنصرة وغيرهما من التنظيمات السنية شديدة التطرف لمواجهة فصيل سني آخر أشدّ وحشية وكراهية ، كذلك لا أتصور أن إيران، سوف تقبل ببساطة، أو حتى بتفاوض قصير أو طويل الأجل، وقف دعمها لعناصر التمرد، أو للقوى السياسية الشيعية، ليس في المنطقة العربية فقط، ولكن أيضاً في جنوب آسيا ووسطها، وإن حدث فسيكون مقابل تغييرات جوهرية في خريطة هذا الإقليم وتوازنات القوى فيه.
هناك أيضاً معضلة الداخل الإيراني. كثيرون يستبعدون ان تقدم القيادة الإيرانية على تحرير أجواء الممارسة السياسية والحقوق وحريات التنقل والسفر وتكوين أحزاب، وهو الأمل الذي يراود الرئيس أوباما وعناصر داخلية عد ة في إيران. آخرون يتوقعون أن تدفع الثقة بالنفس وشعبية النظام الإيراني في أعقاب التوقيع على الاتفاق، إلى إجراء عمليات تجديد وإصلاح تكسب بها إيران صدقية أكبر في العالم الخارجي. هذه المعضلة قد تثبت أنها الأشد تعقيداً بالنسبة إلى القيادة الحاكمة في إيران، ولن تكون بأي حال أبسط أو أقل تعقيداً من مفاوضاتها مع الغرب حول النووي.
عديدة هي المعضلات الناتجة عن الاتفاق والمعضلات الموجودة أصلاً وتفاقمت لحظة الإعلان عن توقيع الاتفاق. ومع ذلك لن نفقد تفاؤلنا بالدور البناء الذي يمكن أن يقوم به الاتفاق نحو مرحلة التقاط النفس وتهدئة الخواطر ووقف نزيف الدم
البديل المطروح لهذا الأمل والتفاؤل مخيف، وأكره أن أنهي به هذا المقال.

جميل مطر
صحيفة الخليج