الانكفاء الأمريكي أبعد من ركاكة «أوباما»

الانكفاء الأمريكي أبعد من ركاكة «أوباما»

a1448285553

منذ مبدأ «أيزنهاور» الشهير الذي عرف بمبدأ: «سد الفراغ»، عقب الحرب العالمية الثانية، فاتحاً بداية الحضور الأميركي الفاعل في المنطقة العربية، وصولاً إلى السياسات الأميركية الراهنة، التي يمكن وصفها بسياسات «خلق الفراغات»، حافظت تلك السياسات، سواء كانت جمهورية أم ديموقراطية، على سمة مشتركة، وهي ضعف وبلادة إحساسها بمسؤوليتها الكونية تجاه قضايا التحديث والعقلنة والتنمية في المنطقة العربية خلال العقود الماضية.

صحيح أن التقدم على مسارات هذه القضايا مسؤولية العرب أنفسهم، أولاً. لكن المقاربات الأميركية لأزمات بلدان المنطقة، لم تكن تضع في حساباتها احتمالات دفع «دولها»، جدياً، نحو خيارات بناء حياة سياسية ذات طبيعة معاصرة، تتجاوز ثنائية الاستبداد والتقليد. وبلادة الإحساس بالدور الكوني الإنساني، الذي وسم السياسات الأميركية تجاه قضايانا وقضايا البشرية عامة، يمكن تلمّسها بواسطة كثافة حضور عناصر المصلحة القومية الأميركية، البراغماتية، النفعية، فيها، وضمور الأبعاد الأخرى المتصلة بمسؤوليتها كدولة عظمى في نشر الحداثة عالمياً. وأيضاً، يمكن تلمسها بمقارنتها بالسياسات الفرنسية والبريطانية في كل من مصر والعراق وسورية ولبنان، أثناء ما عرف بصدمة الحداثة. فعلى رغم حضور العناصر الإمبريالية في سياسات كل من فرنسا وبريطانيا، حينذاك، فإنها لم تحجب كلياً أدوارهما الكونية الأخرى، كدورهما الفاعل في بناء الدول «العصرية» في تلك البلدان، وما ترتب على ذلك، من إقامة برلمانات وصحافة حرة وأسس لحياة سياسية تعددية، نتجت من قاطرة التوسع العالمي للرأسمالية. فكان الفرق بين آثار السياسات الكولونيالية على مجتمعاتنا وآثار السياسات الأميركية عليها، فرقاً نوعياً، يرتقي ليتطابق مع حجم الفرق بين فلسفات التنوير الأوروبية والفلسفة الذرائعية الأميركية.

في مرحلة الحرب الباردة، ساهمت السياسات الأميركية من طريق تفاهماتها الضمنية والصريحة، مع السياسات السوفياتية في الحفاظ على ستاتيكو «الاستقرار» في المنطقة العربية، والذي اقتسمت ضبطه الأنظمة العسكرية والأنظمة التقليدية، وبالتالي، فإن أردأ نسخ الاتجاهات والحركات الإسلامية والقومية، التي تكفلت بإخراج المنطقة كلياً من دائرة التفكير والتواصل مع المعاصرة والجماعة الإنسانية، كانت من ثمار هذا الستاتيكو.

واضمحلال الإحساس بالمسؤولية عن فكرة التنوير الكوني في سياسات أكبر دولة في التاريخ، لم يتوقف على ما سبق ذكره فحسب، بل تعداه إلى ممارسة التوظيف السياسي لظاهرة التأخر العربي والإسلامي ولصراعات الهويّة التي نجمت عن هذا التأخر. فلم تشعر الدولة «قائدة العالم الحر» بالحرج من توظيفها وتعبئتها للظاهرة الجهادية في أفغانستان بمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق.

ولم تتورع عن الاستثمار في الحرب العراقية – الإيرانية المدمرة، التي كانت من العوامل المؤسسة للصراع السني – الشيعي بصيغته الراهنة. وبعد إسقاط صدام حسين، لم تبد اكتراثاً بدخول العراق دائرة النفوذ والهيمنة الإيرانيتين، فتخلت عن «إياد علاوي» العلماني، على رغم الفوز الانتخابي لقائمته، ورضخت للابتزاز الإيراني بالاتفاق معها على مرشحها الطائفي نوري المالكي، الذي ساهمت سياساته المذهبية في توليد الظاهرة الداعشية، وسمحت له بالقضاء على ما عرف بالصحوات التي تصدت بجدية ونجاح للتنظيمات المتطرفة. وتحت نظرها ونظر قواتها في العراق، جرت أكبر عملية فساد سياسي في التاريخ، من قبل قوى الإسلام السياسي الشيعية، التي استقدمتهم إلى السلطة، وذلك بهدر وسرقة ما يقرب من التريليون دولار أميركي، بحسب الكثير من المصادر.

ولكي تكتمل آثار الانكفاء الأميركي في المشرق العربي، انحسر النزوع الاستقلالي الوطني اللبناني، الذي طفا على السطح إثر اغتيال الرئيس الحريري، أمام غطرسة وفجور سلاح «حزب الله» وتوابعه المليشيوية.

أما الثورة السورية المغدورة، فكانت شهيدة وشاهدة على موات العناصر الكونية – الإنسانية في السياسة الأميركية، حيث أفضى الانكفاء إلى تراخٍ عالمي رهيب أمام هول الكارثة السورية، والسماح لكل قوى التأخر والهمجية الداخلية والخارجية، بأن تنهش جسد الثورة المدني الديموقراطي.

بكلام مختصر: الانكفاء الأميركي أبعد من الركاكة الأوبامية، بل يطاول الرأي العام والنخب المدنية والعسكرية ومراكز صنع القرار، ويعبر عن نزعتين عميقتين في المجتمع الأميركي، هما الذرائعية والفردية المطلقة.

   منير الخطيب

صحيفة الحياة اللندنية