المحاصصة الطائفية دكتاتورية جديدة بمسوغات التعدد

المحاصصة الطائفية دكتاتورية جديدة بمسوغات التعدد

المحاصصة الطائفية

تعاني مجتمعات الدول التي تمر بمراحل انتقالية وتحولات سياسية من اهتزازات وجودية عنيفة، ومخاضات بنيوية، وتخضع لاختبارات عسيرة على صعيد صيانة النسيج الاجتماعي، واستدامة العيش المشترك، والاستقرار السياسي وحفظ الأمن الوطني. ويكون التحدي الجوهري للنخب السياسية والاجتماعية هو كيفية الموازنة بين تماسك كيان الدولة من جهة، وتهدئة مخاوف الجماعات الدينية والمذهبية والقومية، والحيلولة دون انزلاق البلاد إلى الاقتتال الطائفي وحروب الهويات، من جهة أخرى.

ويعتقد باحث عراقي في الاجتماع السياسي أن آلية “الديمقراطية التوافقية” تمثِّل نموذجاً تطرحه الأدبيات السياسية لممارسة السلطة في البلدان التعددية أو المتنوعة مجتمعيا، والتي تعاني ضعفاً في الوحدة الوطنية وتواتراً في الأزمات السياسية، لذلك فعملية إشراك جميع المكونات المجتمعية في صنع القرار السياسي، يُعدُّ، بحسب مؤيدي هذا النموذج، ضمانة لعدم الانزلاق في مواجهات وحروب أهلية. هذا ما يؤكده الأكاديمي ياسين سعد البكري، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة النهرين في بغداد، في بحثه “إشكاليات الديمقراطية التوافقية وانعكاساتها على التجربة العراقية”.

وقال البكري في تصريح لـ”العرب”: الديمقراطية التوافقية نظام سياسي يُطبَّق في بعض المجتمعات المنقسمة كصيغة مشاركة في السلطة لتحقيق مطالب المكونات الاجتماعية، وهو قائم على معطيات عدة أهمها الفيتو (حق النقض) المعطِّل للقرارات ذات الأهمية العليا، ويُمنح لجميع الأطراف السياسية بغض النظر عن حجم المكونات التي تمثلها وأوزانها البرلمانية.

ويضيف البكري “لم تكن الديمقراطية التوافقية إبتكارا عراقيا بل سبقتنا التجربة اللبنانية وحتى دول أوروبية مثل بلجيكا”. وحول الأبعاد الأخلاقية للتوافقية السياسية، وعما إذا كانت مفهوم أخلاقي ووطني بحد ذاته، أم مجرد أداة ووسيلة ترتبط أخلاقيتها بمضمونها وغاياتها، يجيب البكري “لا يمكن عزل العناصر القِيَمية والأخلاقية عن عالم السياسة، كونها تشكِّل هدفاً ضمن الأهداف المصلحية يتنازل من أجله الأفراد عن إراداتهم لصالح مجموعة تنوب عنهم لإدارة الحكم”،

التنوع والديمقراطية

في دراسته، المنشورة بمجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، يستعرض البكري بعض المفاهيم التي ربطها علماء السياسة بالديمقراطية التوافقية التي تُثير حسب رأيه مجموعة إشكاليات حول مدى فاعلية التوافقية في تعزيز الاندماج الاجتماعي وصيانة السلم الأهلي وتحصين المجتمع ضد أخطار الصراع والتشرذم.

لا وجود لمجتمع مدني دون حرية الاختيار، والمجتمع المدني الذي تؤسس له الديمقراطية التوافقية هو مجتمع عمودي مفرغ من الحرية

ومن هذه الإشكاليات، إشكالية الأغلبية السياسية والأغلبية المجتمعية. إذ يفرِّق الباحث بينهما مشيراً إلى أن الأولى هي أغلبية أفقية ممتدة على مساحة الوطن بكل اتجاهاته ومكوناته وطوائفه، في ظلها يتجمع المواطنون من كل الانتماءات المجتمعية حول البرامج السياسية والأيديولوجيات، أما الثانية فهي أغلبية عمودية تقسم المجتمع على أساس العلاقات والانتماءات الأولية والطائفية والإثنية، فيكون الحكم للمكون الأكبر دينيا أو مذهبياً أو عرقياً بغض النظر عن التنافس الانتخابي أو البرنامج السياسي.
لافتا إلى أن هذا المنظور للأغلبية يتناقض مع الجذر المفاهيمي للديمقراطية كنظرية فلسفية أو تطبيقات ليبرالية حديثة. ويضرب الباحث مثالا فيقول “في الولايات المتحدة لم يُصنَّف الرئيس كينيدي على أنه كاثوليكي بل ديمقراطي، ولم يُصنَّف أوباما على أنه أسود في مقابل ماكين الأبيض بل ديمقراطي في مقابل جمهوري”، مؤكداً أن التأثر بالحيثيات الاجتماعية والدينية والعرقية يبقى عاملا ثانويا حتى لو استخدمه المرشحون في حملاتهم، كما ينحصر في الغالب في اهتمامات الناخبين المتطرفين الذين لا يخلو منهم أي مجتمع.
ويُبيِّن البكري أن هذا الانقسام الذي يفرزه اعتماد مفاهيم الأغلبية والأقلية المكوناتية لا البرامجية، وكمنتج للديمقراطية التوافقية، يمكن ملاحظته في الأزمات التي تتوالد في النموذجين اللبناني والعراقي وتعطيل اتخاذ القرارات وسن التشريعات وتعريض كيان الدولة لخطر الانهيار وتكريس المحاصصة الطائفية المعطِّلة للمؤسسات.

والإشكالية الثانية، التي تطرحها دراسة البكري، هي بناء الهوية الوطنية ودولة المواطنة، إذ تناقش مسؤولية الدولة الحديثة في دمج مواطنيها عبر أساليب التنشئة السياسية، التي لا تغفل عن فتح فضاءات معنوية مفقودة من خلال صنع واختراع رموز مشتركة بين المواطنين من المكونات المختلفة.

أما الديمقراطيات التوافقية ذات البناء والاستقطاب المجتمعي العمودي، والخطاب السياسي المحدود بشريحة اجتماعية معينة، فإنها تعيد إحياء الروابط الأولية وتعظيمها على حساب الرابط الجمعي الوطني، وهو ما يخلق حالة من التمزق العاطفي وتغييب المستوى المعنوي من الهوية الوطنية، مشدداً على التمييز بين رؤيتين: الرؤية القسرية للتنوع الاجتماعي التي تحاول تذويب الخصوصيات الثقافية ودمجها وصهرها بصورة قمعية فتؤدي إلى سلوكيات وتجمعات مخفية لدى المكونات المقموعة للمحافظة على الذات والصمود أمام الكبت والتذويب. والرؤية المكوناتية، وهي جوهر فكرة الديمقراطية التوافقية، التي تعزز حضور الهويات الفرعية بصورة جبرية تُرغم الأفراد على الانضواء تحتها على حساب الهوية الوطنية الجامعة. وكلا الرؤيتين تؤديان، في رأيه، إلى نتيجة واحدة هي التفكيك السياسي والتفتيت الاجتماعي وإضعاف كيان الدولة وبنية المجتمع.

وفق الدراسة، في الديمقراطية التقليدية يكون النائب ممثلا لعموم المواطنين وليس لناخبيه أو جماعته الطائفية أو المذهبية أو العرقية فقط، وله حصانة في إبداء رأيه بغض النظر عن رأي حزبه وكتلته. في حين يكون النائب، في الديمقراطية التوافقية، ممثلاً لطائفته أو مكونه الاجتماعي، وليس له استقلالية بمعزل عن كتلته وتوجهاتها ورئيسها، ولذلك فإن القرار التشريعي، وبالتحديد في القضايا المهمة، لا يتم وفق قاعدة أغلبية الأصوات، بل من خلال توافقات بين قادة الجماعات أو الطوائف، محكومة بالتوازنات واستجابة لمصالح الجماعة الاجتماعية والمكوناتية، والتصويت وفق قاعدة أغلبية النواب يكون تصويتاً لاحقاً للتوافقات التي تمت خارج قاعة البرلمان.

يعتقد الباحث أن الديمقراطية التوافقية إذ تقوم على أساس التمثيل الاجتماعي السياسي ذي الاستقطاب العمودي، سعياً من الأطراف التوافقية لتعزيز مواقعها ومناصبها بشكل متبادل، فإنها تمسي معضلة. فمثلاً، في التجربة العراقية، تظهر مشاكل في تقديم مرشحين ليشغلوا المناصب النيابية والتنفيذية لكونها محصورة لمكونات معينة وفق التقسيمة التحاصصية، فتتعطل العملية نتيجة التجاذبات داخل المكون نفسه، وهو ما ينسحب على مؤسسات الدولة كافة. كل هذا يجعل البناء المؤسسي للدولة هشاً وعرضة لخطر الصراعات والتخندق الطائفي، ويقلل من معيار الكفاءة في التوظيف، والذي يستعاض عنه بمعيار الانتماء للجماعة الاجتماعية الطائفية.

ويلاحظ الباحث أن التداخل بين الحقلين السياسي والاجتماعي، في ظل الديمقراطية التوافقية، أخطر من التداخل بين حقلي السياسة والدين، لأن الأول يتسبب في الثاني وينتج معه صراعاً معقداً يتضمن أبعاداً عشائرية ومذهبية، وبالتالي يتسبب في حالة من الاحتراب، وهشاشة الدولة وفشلها الوظيفي، ويقلِّل احتمالية الاستقرار السيـــاسي، ويكرِّس التمييز والـــشروخ الاجتماعية، ويقوِّض فرص بناء الدولة المدنية.

والديمقراطية التوافقية، حسب البكري، تحاول إثبات أن الفرد لا وجود له خارج جماعته الاجتماعية، وهو فهم تاريخي جامد مؤسس على أواصر شبه قبلية، عشائرية منغلقة، غير قابلة للتطور إلا في الشكليات اللفظية من قبيل لفظة “الديمقراطية”.

ويَعتبر الباحث أن الاختيار والطوعية في الانتماء أو الانسحاب هي أهم عناصر المجتمع المدني وركيزة أساسية تفضي إلى الانفتاح. أما الديمقراطية التوافقية، بحسب البكري، فلا تتعامل مع المجتمع المدني بحمولته المبنية على الاختيار، بل تتعامل مع شكل آخر له بحمولة تتجاوز الاختيار إلى الجبر، أو ما يمكن توصيفه، بحسب الباحث، بـ”المجتمع الأهلي”، وذلك لأن التوافقية تتعامل مع العلاقات الأولية والانتماءات الاجتماعية، لا الخيارات الفكرية والسياسية.

ويفسِّر الباحث وجهة نظره قائلاً: المجتمع الأهلي أو الانتماءات الاجتماعية حقيقة واقعية لها جذورها وأعرافها وقيمها، غير أن الإشكالية في أن تتحول إلى مقولة وتنظيم سياسي يفرض على كل أفراد الطائفة. وكل واحد من هذه التنظيمات لا يقبل أي فرد من الجماعة الأخرى، ومثال ذلك تصنيف الناس إلى سنة وشيعة تتم تصفيتهم طائفياً خلال الحرب الأهلية عام 2006 و2007 حتى لو لم يكونوا كأفراد متورطين في النزاع.

تلك النظرة إلى الفرد كمنتج جبري تلغي حرية الاختيار والقدرة على التواصل والانقطاع، أو الانضمام والانسحاب، وهو ما يلغي عملياً المجتمع المدني، فلا وجود لمجتمع مدني دون حرية الاختيار، والمجتمع المدني الذي تؤسس له الديمقراطية التوافقية هو مجتمع جبري عمودي مفرَّغ من الحرية.

طه همام

صحيفة العرب اللندنية