ولكنْ ما الذي تريده موسكو؟!…

ولكنْ ما الذي تريده موسكو؟!…

روسيا والازمة السورية

كان التهديد بتشكيل وفد موازٍ للوفد المفاوض الذي أفضت إليه توافقات مؤتمر المعارضة في الرياض، والتفرد في تحديد ماهية الجماعات المسلّحة التي توصف بالإرهاب، ووضع «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» في خانة التنظيمات الجهادية التي لا حوار معها، والإصرار على فرض رؤية خاصة لطابع المرحلة الانتقالية وموقع بعض رموز النظام فيها…، هي عناوين التشدّد الروسي في إدارة الملف السوري ورفع سقف الاشتراطات تجاه المفاوضات بين السلطة والمعارضة.

والحال أنه ما كان لموسكو أن تحوز هذا الوزن المؤثر في مصير الحل السياسي السوري لولا سببان رئيسان:

أولهما، حضور عسكري مباشر تمكّن من وقف التدهور الميداني ومساعدة قوات النظام على استرجاع بعض المناطق المهمة في أرياف دمشق ودرعا واللاذقية، وزاد الأمر وضوحاً واقع المعارضة السورية المرتبكة التي تعيد تموضعها للتلاقي مع الخطة الأممية للتسوية، بينما يحاصرها نفوذ التنظيمات المتطرفة وتقدّمها على حساب التشكيلات العسكرية التي توصف بالمعتدلة. وثانيهما، استمرار سلبية الدول الغربية واستهتارها بالمحنة السورية، وزاد الطين بلة تبدّل مواقفها نحو أولوية مواجهة الإرهاب الإسلاموي وتنظيم «داعش». وقد وصل الأمر عند واشنطن إلى التنازل عن عدد من النقاط الخلافية والتسليم بما ترسمه موسكو لأفق الصراع، وكأن البيت الأبيض يتقصّد إطلاق يد الكرملين في سورية، ربما كاستمرار لسلبية أوباما المزمنة، وربما عشية انشغاله بالانتخابات الرئاسية المقبلة، كي يغازل مزاج الشعب الأميركي الذي تهمّه الإنجازات الداخلية وليس الأدوار الخارجية، بعد تجارب سابقة دفع ثمنها غالياً من عافية اقتصاده.

وإذا كانت ثمة شعارات معلنة لقيادة الكرملين لتسويغ دورها في إدارة الملف السوري ورعاية تحولاته السياسية، منها الحرب على الإرهاب الجهادي وضرورة الحفاظ على الدولة ووحدة البلاد وتعايش مكوناتها، فالحقيقة أن هذه الشعارات ليست ما يحدّد سياسة الكرملين، بل المصالح وحسابات التنازع على النفوذ والهيمنة، والتي تحدوها أهداف مضمرة تسعى موسكو إلى تحقيقها، تبدأ بهدف سياسي استراتيجي يتوسّل التمسك بآخر موطئ قدم في الشرق الأوسط، كرد على إهمال مصالحها والاستهتار بوزنها في المنطقة وكورقة ضغط على الأطراف الغربية لتحسين شروطها التنافسية في ساحات الصراع الأخرى، بخاصة في أوكرانيا، وفي الطريق تعزيز التوجّه المشترك للنيل من تنظيم «داعش»، على أمل فتح نافذة لتخفيف العزلة وإعادة بناء الثقة.

وهذا مروراً بهدف اقتصادي يزداد حضوراً مع تفاقم المشكلات الاقتصادية في روسيا بسبب العقوبات وتراجع أسعار النفط، تكثفه مرة، حاجة موسكو التقليدية إلى استمرار توريد الأسلحة وزيادة حجم التبادل التجاري مع المنطقة، ومرة ثانية ضمان حصة مجزية في استثمار ثروات النفط والغاز الكامنة في حقول بحرية قرب الشاطئ السوري، ومرة ثالثة قطع الطريق على مشروع مد أنابيب الغاز القطري عبر الأراضي السورية، والذي في حال تنفيذه يحرر البلدان الأوروبية من حاجتها الى الغاز الروسي واشتراطاته. وانتهاءً بالهدف الأمني، وهو توظيف كل ما يلزم من جهود عسكرية وأمنية لضرب الجماعات الجهادية، بما فيها المنظمات المسلّحة ذات الطابع الديني وتحطيم قدراتها، فليس مثل موسكو من يتضرّر من تنامي وزن الجهاديين في سورية ومنهم بالآلاف من أصل روسي! وليس مثل روسيا من يتحسب من خطرهم في حال سقوط النظام وقيام بديل إسلامي، وتالياً تداعيات تعاطف مسلمي القفقاس والبلدان المحيطة بها معهم. وليس من خيار أجدى يقيها أذاهم المباشر ويقطع طريق عودتهم إلى المناطق الروسية التي خرجوا منها سوى مواجهتهم خارج أراضيها وحصر المعركة معهم في سورية والعراق أسوة بتكتيك أميركا وحلفائها.

صحيح أن الموازين الداخلية والخيارات الدولية في اللحظة الراهنة لا تسمح بتنفيذ حل سياسي يحقق آمال الشعب السوري، وصحيح أن موسكو أقدر اليوم على التحكم بمصير هذه البؤرة من التوتر والإمساك بمفاتيحها، لكن الصحيح أيضاً أن المسافة بين شعاراتها المعلنة وأهدافها المضمرة باتت تتّسع وتتّضح أكثر فأكثر، ربما لأن ما يهم موسكو هو توظيف الملف السوري للالتفاف على المشكلات الداخلية والهروب إلى الأمام عبر الإيحاء بأن السياسة الخارجية مكّنتها من استرجاع موقعها كقوة عظمى ونجحت في إجبار العالم على التعامل وفق هذا الأساس، وربما لأن ما تحقق من تقدّم على الأرض أغراها بتغليب الخيار العسكري، وشجّعها على تناسي تجاربها المؤلمة، بخاصة المستنقع الأفغاني، وتالياً إغفال حقيقة تقول باستحالة تسوية أي صراع بمنطق القوة والحرب ومن دون أخذ مصالح مختلف مكوناته بالاعتبار، فكيف الحال إن كان مفتوحاً على مختلف التدخلات العالمية والإقليمية؟

وربطاً بما سبق، يمكن النظر إلى إحجام موسكو عن تقديم أي تنازل حقيقي ينسجم مع روح التوافق بين الأطراف المتحاربة أو يعمل على تقريب المواقف بين بعض السلطة وبعض المعارضة، وأيضاً إلى صدقية الادعاء بالحفاظ على وحدة الأرض والدولة، أمام التسليم بتقاسم النفوذ مع المعارضة المسلّحة والاكتفاء عملياً بضمان أمن مناطق محددة وتحصينها، ثم اختبار حقيقة شعار وقف حمام الدم في ظل تصاعد دور عسكري يبقي الجرح السوري مفتوحاً ويعمّق الاصطفافات والتخندقات!.

وإذ نعترف بأن متابعة السير في طريق الحل السياسي تحكمها ارتباطات ودوافع متداخلة ومعقّدة زادها تعقيداً طول أمد الصراع وما كرسّه العنف المفرط من نتائج مؤلمة يصعب تجاوزها راهناً، ونعترف بأن الرهان يبقى ضعيفاً على نجاح التسوية السياسية مع تصاعد التشدد الروسي، وصعوبة التوفيق بين مصالح متعارضة تمثلها قوى عربية ودولية، وفئات من النظام والمعارضة، لكن لن يتأخر الوقت كي يدرك الجميع أن لا خلاص من المحنة السورية ومن ثقل أعبائها وخطورة تداعياتها، سوى الركون الى مبدأ الحوار والتفاوض القائم على أسس عادلة تحافظ على وحدة البلاد ومطالب الناس بالتغيير وبناء دولة المواطنة، وعتبة الإقلاع، الوقف الفوري للعنف والمعالجة الناجعة للملفات الإنسانية كافة.

أكرم البني

صحيفة الحياة اللندنية