تجديد حياة الأحزاب السياسية في تركيا

تجديد حياة الأحزاب السياسية في تركيا

resized_3e51f-1606_tur_picture_20160505_8249159_8249158

عاشت الجمهورية التركية مرحلتين أساسيتين في تجربتها السياسية الحزبية، كانت الأولى هي مرحلة حكم الحزب الواحد، الذي بدأ مع تاريخ تأسيس الجمهورية منذ عام 1923 ولغاية عام 1950.
حكم في المرحلة الأولى حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه وترأسه مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس النظام الجمهوري في تركيا، ورئيس الجيش بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة التركية، فجمع أتاتورك بين رئاسة الحزب السياسي الحاكم ورئاسة المؤسسة العسكرية الحاكمة معاً، فأصبحت الجمهورية التركية محكومة من المؤسسة السياسية والعسكرية، باجتماع الرئاستين في شخص رئيس الجمهورية ومؤسسها الجديد، ولكن هذه الازدواجية في قيادة الحياة السياسية لحكم الحزب الواحد ومؤسسة الجيش لم تنجح في قيادة المجتمع والشعب التركي نحو النهضة المنشودة، بسبب إصرار الجيش على فرض الأيديولوجيا العلمانية المتشددة، تلك العلمانية التي استوردها حزب الشعب الجمهوري من أوروبا لتحديث تركيا من وجهة نظره، وفرضها بالقوة العسكرية وحكم الحزب الواحد الذي يمسك بكل مقاليد الدولة بالكامل.
ولكن عدم نجاح هذا النموذج في الحكم في تركيا لأكثر من عقدين، أدخل البلاد في مصاعب كثيرة، فقد واجهت البلاد تحديات كبيرة وعنتاً شعبيا اجتماعيا وثقافيا لم يقبله الشعب التركي في الداخل أولاً، وهو ما أدى إلى ضعف اقتصادي كبير ثانياً، ومعارضة خارجية من أمريكا والدول الأوروبية ثالثاً، التي خرجت من الحرب العالمية الثانية، وشرعت في الحرب الباردة، واحتاجت إلى تركيا في بناء حلف شمال الأطلسي الناتو، ما تطلب دعم حكومة ديمقراطية في تركيا رابعاً، فلم يكن هناك بد من الاستجابة إلى المطالب الداخلية والخارجية، وإجراء انتخابات برلمانية على أساس التعدد الحزبي، وفق النظام البرلماني التركي، وهو ما تم عام 1950 من انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب، فاز فيها الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس بأغلبية برلمانية، مكنته من تشكيل أول حكومة برلمانية منتخبة من الشعب التركي، مع وجود منافس حزبي آخر هو حزب الشعب الجمهوري الذي حكم قبله لنحو 25 عاما منفردا.
أثبتت فترة حكم عدنان مندريس نجاحا اجتماعيا ومصالحة وطنية مع حضارة الشعب التركي، ونجاحا اقتصاديا ملموسا، وتأييداً شعبيا كبيرا، وهذا أمر خشيه العسكر الذي راقب عمل الحكومة وتدخل في شؤونها إلى درجة الاصطدام، وكذلك خشيه حزب الشعب الجمهوري، الذي أخذ يمارس الحكم من وراء الكواليس، وبحكم نفوذه السابق في كل مواقع الدولة وأجهزة الحكومة، أسس نوعا من الحكم بالوصاية أو الدولة العميقة منذ ذلك الحين، وإن جلس في مقاعد المعارضة في الظاهر بحكم الدستور، فلم يحكم بعدها منفردا إطلاقاً. والفترات التي حكمها في حكومات ائتلافية كانت ضعيفة وفاشلة، ولم يكن ليصل لحكم البلاد حتى في الحكومات الائتلافية إلا بفعل الانقلابات العسكرية التي كانت تقضي على الأحزاب الديمقراطية وحكوماتها المنتخبة في أعوام 1960، و1971، و1980، و1997، فكانت كل هذه الانقلابات العسكرية المتوالية ضد الإرادة الشعبية والحكومات الديمقراطية التي كان الشعب ينتخبها.
لقد كان فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية عام 2002 نجاحا كبيرا لإرادة الشعب التركي، الذي تمكن من انتخاب الحزب الذي يريده بدون عوائق، وكان لنجاح حزب العدالة والتنمية السياسي والاقتصادي خلال سنوات حكمه تغيير إيجابي في سير الحياة السياسية الحزبية وتبادل السلطة عبر الإرادة الشعبية، وبالأخص بعد ان تم تعديل الدستور ووظيفة الجيش والمؤسسة العسكرية، وجعل دورها في حماية الحدود التركية الخارجية، وعدم التدخل في شؤون الحياة السياسية والحكومات التركية المدنية، وترك مطلب تغيير الحكومة والحزب الحاكم للانتخابات والإرادة الشعبية فقط، وقد ساعدت مؤسسة الجيش على إقرار هذه التعديلات الدستورية باتجاه الديمقراطية للوفاء بمطالب وشروط الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، ولكن الأهم من ذلك كله هو عدم نجاح المؤسسة العسكرية أن تفرض رؤيتها الأيديولوجية العلمانية المتشددة على الشعب التركي، رغم أربعة انقلابات عسكرية كل عشر سنوات تقريباً، وهذا ما أدى بها للقناعة بان الشعب التركي أوعى من أن يغير قناعته وانتماءه الحضاري للإسلام من خلال الانقلابات العسكرية، أي أن الانقلابات العسكرية في تركيا فقدت مشروعيتها وجدواها، وأصبحت من التاريخ التركي، وليس الحاضر ولا المستقبل.
هذا يفرض على الشعب التركي وأحزابه جميعها في السلطة والمعارضة، بما فيها حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري بالدرجة الأولى، العمل على تطوير الحياة السياسي والعمل الحزبي السياسي بشكل كبير، فالمرحلة التي حكم فيها حزب الشعب الجمهوري بعقليته القديمة العلمانية المتشدد أو اليسارية أو المعادية للدين لم تعد مقبولة عند غالبية الشعب التركي، لا أيديولوجيا ولا سياسياً، وفي الوقت نفسه لا يصح أن تبقى الحياة السياسية الحزبية في تركيا محصورة بوجود حزب العدالة والتنمية وحده في السلطة والحكومة إلى الأبد، وللأسف فإن ممارسة حزب الشعب الجمهوري في عهد كمال كلجدار اغلو كأبرز حزب معارض في البرلمان، لم تكن ناجحة سياسيا في المرحلة التي حكم بها حزب العدالة والتنمية، فقد تركزت معارضة كلجدار أغلو على الخلفية الشخصية لعداء رئيس الحزب السابق ورئيس الجمهورية الحالي السيد رجب طيب أردوغان، وهذا أثر على سوء أدائه السياسي، وفشله في كسب ثقة الشعب في الانتخابات السابقة جميعها، فقد حصر نفسه بأنه يمثل ربع أصوات الناخبين في تركيا، أو ربع الأصوات التي تذهب إلى صناديق الاقتراع فقط، وهذا ما تم في كل الانتخابات السابقة في مقابل حزب العدالة والتنمية الذي كان قريبا من نصف أصوات الناخبين.
إن جمود هذه الصورة الحزبية في السلطة والمعارضة هو نوع من الجمود في الحياة السياسة في تركيا، فلا بد أن يفكر الحزب الحاكم منذ أربعة عشر عاما تقريبا وهو حزب العدالة والتنمية بتحريك الحياة السياسية، بتنشيط وتفعيل أحزاب أخرى لتولي الحكومة أو المشاركة فيها، وبالأخص بعد أن يتحول نظام الحكم في تركيا إلى نظام رئاسي وحزبي، وكذلك فإن حزب الشعب الجمهوري مطالب ان يغير من طريقة تفاعله السياسي كحزب معارض وليس كحزب معاد للحزب والحكومة والرئاسة الحاكمة، وإذا عجز كلجدار اغلو عن لعب دور جديد في المرحلة المقبلة فلا بد أن يأتي التغيير من داخل حزب الشعب الجمهوري، فعدم قدرة الحزب على زيادة تصويت الشعب له في خمس دورات انتخابية برلمانية، دليل على ضعف الحزب وتراجعه المتواصل، والسكوت عن ذلك سيؤدي إلى سقوط الحزب اجتماعياً وسياسياً وبقائه حزبا يحافظ عن مصالح كبار الشخصيات الحزبية فيه فقط.
ولعل في التحالفات الأخيرة التي أجراها حزب الشعب الجمهوري مع حزب الشعوب الديمقراطي بعض الفوائد في تنشيط الحياة الحزبية السياسية في تركيا، فهذه التحالفات رغم ما فيها من سلبيات، وربما جاءت بسبب ضغوط خارجية أيضاً، ولكن فيها بصيص أمل لتحريك حياة حزبية سياسية أقوى، بشرط ان تكون بهدف بناء حياة سياسية جديدة، وليس زيادة التحالف المعادي للحزب الحاكم، ولا مناكفة حكومته، ولا الصراع مع رئيس الجمهورية أردوغان، لأن الرئيس أردوغان هو خيار غالبية الشعب التركي أولاً وأخيراً، وهو أمام شعوب العالم ودوله كلها رئيس شرعي منتخب من الشعب التركي، وبالطرق الديمقراطية، فلا فائدة من مواجهته بغير الطرق الديمقراطية، لأن ذلك يسيء للجمهورية التركية في الخارج والداخل معاً. وفي آخر تصريحين لزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو إشارتان، إحداهما سلبية والأخرى إيجابية، فالتصريح الأول الذي هدد فيه بسفك الدماء لمنع تحويل النظام إلى رئاسي هو في منتهى السلبية والخطأ، فهو في مستواه اللفظي يعبر عن شخصية غير ديمقراطية ومضطربة، وفي مستواه الوطني جريمة تهدد الاستقرار الأمني في تركيا، لأن التصريح صادر عن اكبر زعيم حزب سياسي تركي معارض، وليس عن شخص عادي.
أما التصريح الايجابي فهو زعم زعيم حزب الشعب الجمهوري، بأنه: «لن يسمح باضطهاد حزب الشعوب الديمقراطي»، ومدعياً:» أن حزبه سيتولى الدفاع عنه خلال المرحلة القضائية»، والصورة الإيجابية ليست دعوى الدفاع لذاتها، وإنما باحتمالية تحويل هذا الدفاع إلى تحالف حقيقي بين الحزبين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الشعب الجمهوري، بحيث يصبحان حزباً واحداً، يغير من دورهما السلبي في الحياة السياسية التركية بعامة إلى دور إيجابي، وذلك بتأسيس ثقافة حزبية جديدة لحزبهما الجديد تتطلع لأن تلبي توجهات الشعب التركي في مطلع القرن الواحد والعشرين، وليس مطلع القرن العشرين الماضي اولاً، وبصياغة ثقافة وطنية تحافظ على منجزات الوطن والمجتمع والدولة والأمة التركية، بوحدة أراضيها ووطنها وعلمها ونظامها الجمهوري الذي يقوي تركيا ثانياً، وأن يكون العمل السياسي الجديد منبثقاً من إرادة الشعب التركي ومن أجله، وليس للمشاريع الخارجية التي تعادي تركيا.
إن وحدة الحزبين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي المفترضة في حزب واحد، يمكن ان تعطي فرصة جديدة لكلا الحزبين لتحسين دورهما السياسي في المعارضة التركية أولاً، وفي حالة كسبها لثقة الشعب التركي فإنها سوف تستطيع المنافسة على كسب أغلبية البرلمان وتشكيل الحكومة ثانياً، ولو بتداول السلطة مع حزب العدالة والتنمية أو غيره في السنوات المقبلة، وبالأخص أن تحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي يحتاج إلى تنوع سياسي بين من يكون في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، أو على أقل تقدير أن يكون هناك حزب كبير معارض في مجلس النواب ومنافس سياسي للحزب الحاكم، وفي حال تشكيل مثل هذا الاتحاد بين الحزبين فإنه سيكون ضمانة لأعضاء وانصار حزب الشعوب الديمقراطي ان يكون حزبا تركيا وطنياً، فلا يحتاج إلى تبني قضايا خارجية غير وطنية، وسيكون ضمانة لأعضاء وانصار حزب الشعب الجمهوري الا يتقوقع في عداء عقيم مع أحزاب السلطة، التي يرى بانها قد سرقت منه ما هو حق له، لأن العمل السياسي مسؤولية الأحزاب، ولكن وصولها إلى السلطة هي مسؤولية نجاحها في كسب ثقة الشعب وأصواته، وليس المناكفة الفاشلة بين أحزاب السلطة والمعارضة، أو العكس.

محمد زاهد غول

صحيفة القدس العربي