جامعة دول عربية.. لمن؟

جامعة دول عربية.. لمن؟

large-318001517900783737

تساءلون، وأقصد أصدقائي المتابعين للشأن العربي، إن كانت وزارات الخارجية العربية ستواصل تعاملها مع جامعة الدول العربية، كأن شيئاً لم يتغير غير شخص الأمين العام، يتساءلون ويجيبون.
توقعوا أن يعود المندوبون العرب وعلى قوائم اهتماماتهم، كالعادة، موضوع تعديل ميثاق ولوائح الجامعة والميزانية وحصص الدول فيها، وربما تقدمت مندوبيات دول بعينها، بالتشاور مع قياداتها في عواصمها، أو باجتهاداتها الذاتية، بأفكار تسمح لها بتغيير أوضاع داخلية في الأمانة العامة تتيح فرصاً جديدة للتدخل أو التوجيه، كل منها لهدف معلوم أو مستجد. أما الأهداف المعلومة فيتصدرها هدف السعي للتأكد من أن الأمين العام الجديد يأتي مستوعباً رغبات ومصالح كل دولة عضو في الجامعة، ومتفهماً حقيقة وضع توازن القوى السياسية والمالية لكل عضو، وانعكاسات هذا الوضع على صنع القرار داخل الجامعة. من الأهداف أيضاً التثبيت المبكر لأقدام ونفوذ مندوبي الدول داخل الأمانة العامة بحجة الرغبة الطيبة والبريئة نحو ترشيد أداء العاملين، وتجديد ولاءاتهم أو كسب ولاءات جديدة.
يعود الكثيرون من المسؤولين عن العمل العربي المشترك إلى اجتماعاتهم في الأمانة العامة لتفاجئهم حقيقة أن أمورا كثيرة تغيرت. التغير لم يقتصر على شخص الأمين العام ومستشاريه المقربين، إنما يطال مفهوم الجامعة، وجوهر وظائفها وأدوارها، بل لعله يلامس سبب وجودها. التغيرات وصلت إلى النظام الإقليمي الذى جاءت الجامعة العربية لتحمل اسمه وتحقق طموحاته وتدافع عن هويته، بل لقد شرفها التاريخ حين سجل لها دورها ومشاركتها في نشأته.
أخشى أن يصبح الحديث فيها في أفضل الأحوال، وبأحسن النوايا، أداء واجب لقاء راتب، أو تجميل ما هو قائم وأثبت فشلاً. إنما نعتقد وبحق، أنه قبل أن نسأل عن ميثاق الجامعة الراهن وتعديلاته والمواقف العربية المتناقضة من هذه التعديلات، وأنهار الحبر الذي تدفق لكتابة مسوداتها، أن نسأل السؤال الجوهري الذي يجب أن يشغلنا كسياسيين، وحكام ودبلوماسيين، ومراقبين، ولاشك يشغل الباحثين والأكاديميين، عرباً وغير عرب، وهو هل لا تزال جامعة الدول العربية الوعاء الأمثل المعبّر عن الحال النظامية الراهنة في «العالم العربي»؟، وللسؤال تتمة ليست بأقل أهمية، وهي عن «العالم العربي» الذي يفترض أن تمثله وتنتمي إليه وتحميه وترفع شاراته وراياته هذه الجامعة العربية.

أتجاسر، وأزعم أننا صرنا نواجه مشكلة حقيقية في تعريف عبارتي الوطن العربي، والعالم العربي، غير واثقين تماماً من أننا ونحن ننطق بأيهما لا نهدر حق وتطلعات شعب، وطائفة، أو نتجاهل ما طرأ على الخريطة من تغيرات وما نراه، وما نتردد في وصفه بكيانات غير عربية الهوى، أو الهوية في طور التكوين.
قامت الجامعة العربية لترمز لنظام إقليمي عربي. صعب علينا الآن أن نفترض أن هذا النظام موجود، نظام تنطبق عليه الشروط «الأكاديمية»، والسياسية، والاستراتيجية التي تؤهله لحمل صفة «العربي»، وصفة «الإقليمي»، ولتمثله منظمة تدعي لنفسها صفتين لا تتوفران معاً في أي مكان آخر، وهما الإقليمية والقومية. هل نبالغ أو نخدع فنستمر في الزعم أن هذه المنظمة ما زالت تمثل، بالفعل، كتلة مصالح «عربية» وتعكس «هوية» استقرت عليها الدول الأعضاء كشرط عضوية؟ أو الزعم أن هذه الدول الأعضاء، وشعوبها، وطوائفها، وأعراقها تلتزم «العروبة» عقيدة معلنة أحياناً، وكامنة بعض الوقت، كما عند الأزمات وفي الأعياد والمناسبات.
إن الإجابات التي نسمعها عن أسئلة من هذا النوع، وهي الآن ملء الساحات المدمرة والحدود المخترقة، وملء سجون غاصة بالشباب والنساء والأطفال، لا تعني بالضرورة أكثر من أن بعض من في هذه «الأمة» أصبحوا أشد ميلاً من أي وقت مضى للاعتقاد بأن النظام الإقليمي العربي قد سقط، أو بكلمات أخرى، للتخفيف من وقع الصدمة في قطاعات عدة، هو نظام آيل للسقوط.
سقط النظام الإقليمي العربي، أو هو يسقط الآن، لأن حكومات دول الإقليم المتسلطة رفضت تسهيل عبور وانتقال السلع عبر حدودها، وانتقال الأفراد للعمل بحرية. رفضت إقامة المشروعات التكاملية التي تنشر روح المشاركة بين شعوب الإقليم، وتترجم شعارات النظام وعقيدته القومية إلى أعمال ملموسة على الواقع. سقط لأن الحكومات لم تشجع شعوبها على المشاركة فى تقرير مصيرها ومصائر أمنها، ونادرة هذه الحكومات العربية التي أقامت حكمها على أسس التعددية الثقافية وحقوق الأقليات في مجتمع عربي كبير.

أضيف إلى قائمة أسباب سقوط النظام الإقليمي العربي الخطأ الكبير الذي ارتكبه عدد غير قليل من حكومات الإقليم، حين استهانت بخطورة الغضب المكتوم في مجتمعاتها، وانسداد منافذ التنفيث والتعبير. كانت النتيجة أنه بدلاً من أن يحدث الانفجار في إطار منظم وبقيادات قوى سياسية مسؤولة، وتنظيمات شبابية وطنية، وأن تنتهز التيارات المتحضرة والتقدمية داخل الحكومات الفرصة للاستفادة من طاقة هذه الثورات في تطوير أساليب الحكم وعقيدته ونظامه، تعاملت بعض الحكومات مع جماهير الثورات بالعنف، وتستخدم عناصر فوضوية وخارجة عن القانون لإثارة فوضى متعمدة، كانت النتيجة أن انفرطت ثورات، ثم انفرطت مجتمعات، ثم انفرطت دول، ثم انفرط، أو ها هو ينفرط النظام الإقليمي العربي. لا ننسى أنه على مسافة أمتار من أيقونة ثورات الربيع تقف على طرف في ميدان التحرير بالقاهرة جامعة الدول العربية تسأل الرائح والغادي «من أكون، ومن أمثل، إذا كان الإقليم من دون نظام إقليمي؟».

أقول دائماً إن التاريخ كان كريماً معنا نحن العرب. منحنا قرناً كاملاً، من ١٩١٦ إلى ٢٠١٦، لنتدبر أمر واقعنا وأمور مستقبلنا. جرّب معنا كل أساليبه، جرّب معنا الحرب والسلم، وجرّب الهزيمة والنصر، وجرب الاشتراكية والرأسمالية. أذاقنا طعم الاستقلال فرفضنا التنكر لطعم التبعية. جرّبنا معه التدخل فى الشؤون الداخلية لبعضنا بعضاً، ولكن جرّبنا في الوقت نفسه الالتزام بالقومية والسيادة الوطنية واحترام التعددية الثقافية، كنا من بين أوائل من جربوا التكامل الإقليمي واتيحت لهم فرص للاستمرار في التجربة ورفضنا.
كان التاريخ بالفعل كريماً معنا، منحنا دولاً بحدود وشعوب وعقيدة وتاريخ وحماية أجنبية، ومنحنا عدواً ليجمعنا ويحفزنا، ساعدنا لنقيم نظاماً إقليمياً وجامعة عربية ولم نكن أوفياء لأي منهما، أسقطنا النظام الإقليمي العربي، أو ها نحن ندفعه للسقوط.. وجمدنا جامعة الدول العربية، أو ها نحن نحذف من عنوانها عروبتها. أتطلع بلهفة لرؤية وجوه هؤلاء الذين سوف يتصدون لمهمة تكوين نظام إقليمي جديد، ولعلهم بيننا يخططون ويستعدون.

جميل مطر

صحيفة الخليج