السياسة الخارجية التركية تجاه إفريقيا

  السياسة الخارجية التركية تجاه إفريقيا

تشكّل العلاقة التركية الأفريقية جانبًا جديدًا ومهمًا في السياسة الخارجية التركية، ويعد اهتمام تركيا للقارة الأفريقية مؤشرًا على رغبتها في أن تصبح فاعلًا نشطًا فيها، عبر الجهود الحكومية وغير الحكومية.

وبالنسبة للجذر الدبلوماسي التركي مع إفريقيا، فأنه ينبغي أن نؤكد أن أول بادرة في هذا الشأن، هي افتتاح سفارة تركية في إفريقيا جنوب الصحراء، وذلك خلال عام 1926م، أي بعد اعلان قيام الجمهورية التركية عام 1923م، بثلاث سنوات فقط، على انقاض الخلافة العثمانية التي ألغيت خلال ذلك العام من قبل الضابط التركي العلماني “كمال آتاتورك”، الذي حوّل تركيا إلى جمهورية علمانية على النمط الأوروبي، قاطعًا بذلك صلات هذه الجمهورية، الثقافية بماضيها الإسلامي ذي الامتداد العربي والإفريقي.

ومن الجدير بالذكر، أن أصقاع الدولة العثمانية- التي استمر عهدها لأكثر من خمسة قرون- امتدت إلى أجزاء واسعة من إفريقيا شملت مصر وليبيا وتونس والجزائر وأجزاء من الصحراء الكبرى والقرن الأفريقي وجزر البحر الأحمر.

ولكن لم يلحظ نشاط تركي واضح المعالم حيال إفريقيا، لا سيما الجزء الواقع جنوب الصحراء طوال الحقب التي تلت افتتاح السفارة التركية وحتى مطلع الستينيات من القرن الماضي. وعليه وكما قال “إرسين كالايسي أوغلو”- أستاذ العلاقات الدولية في دامعة “بوغار” التركية- أن تركيا:” من أواسط الستينيات فصاعدًا إعادة النظر في دورها في العالم، وتطوير علاقات متنوعة مع أكبر عدد ممكن من الدول في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وإفريقيا وآسيا وأوقيانيا وفي الأمريكيتين”. وبعد  أن وجدت أن قيام علاقات وثيقة مع أعضاء حلف شمال الأطلسي- برغم منافعها على تركيا- إلا أنها أدت عزلة تركيا وجعلها منكشفة للضغط من قبل حلفائها الأطلسيين.

وخلال الحقبة الثمانينية من القرن الماضي، أعلنت تركيا- مستذكرة ماضيها التاريخي والديني والثقافي “العثماني”، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية على علاقات وثيقة مع العديد من مناطق إفريقيا- أنها ستتبنى سياسة إفريقية أكثر إيجابية، قوامها المساعدات والمشروعات الاقتصادية، والتبادل الثقافي، وحفظ السلام … مع مراعاتها تجنب التدخل في نزاعات القارة، نظرًا لتعقدها.

 وبدأ ظهور النفوذ التركي في إفريقيا عام 1998م، حين أصدرت تركيا عن توجهها نحو القارة السمراء باسم” السياسة الإفريقية”، والتي تهدف إلى تدعيم وتعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية بين تركيا ودول إفريقيا.

 وبعد مجيء حكومة العدالة والتنمية إلى حكم تركيا في 18 تشرين الثاني/نوفمبر2002م، زاد الاهتمام بالقارة الإفريقية في إطار سياستها الخارجية المتعددة الأبعاد، ومن هذه الأبعاد البعد الإفريقي، التي انتهجها رئيس الوزراء التركي السابق ورئيس الجمهورية الحالي “رجب طيب أردوغان”، ومنظر سياسته الخارجية وزير الخارجية السابق ورئيس وزرائه الحالي “أحمد داود أوغلو”. ولتحقق تركيا حضورها الفاعل في إفريقيا استندت سياستها الخارجية على البعد الدبلوماسي والاقتصادي والديني الثقافي.

وبناء على ما تقدم نتساءل، ما دوافع تركيا في توجيه سياستها الخارجية نحو إفريقيا وما أهدافها التي تتوخى تحقيقها هناك؟. وللإجابة على هذا السؤال تقسم الدراسة على النحو الآتي:

أولًا- البعد الدبلوماسي التركي تجاه القارة الإفريقية:

في إطار السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد التي تتبعها الحكومة العدالة والتنمية في تركيا، جاء انفتاح تركيا نحو إفريقيا ضمن أهداف السياسة الخارجية التركية في العقود الأخيرة، التي بدأت تستشعر روحها القيادية القديمة، باعتماد المشاركة الفعالة في القضايا العالمية. ومما ساعد على ذلك إحساس تركيا المتفاقم بالبحث عن شركاء إقليميين من خلال “التعنت” الأوروبي في انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وعليه، يمكن تقسيم تطور الدبلوماسية التركية تجاه القارة الأفريقية إلى مرحلتين:

1-المرحلة الأولى (2005م-2011م): ففي هذه المرحلة، عملت تركيا على تقوية علاقاتها بإفريقيا على المستويات كافة، وحصلت على منصب مراقب في الاتحاد الإفريقي في 12نيسان/ ابريل عام 2005، وانضمت الى البنك الإفريقي للتنمية في 15 أيار /مايو عام 2005م، كما عملت على تقوية علاقاتها بهيئة المنظمات الحـكومية الدولية للتنــمية في شرق إفريقيا، والتجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا، ما ساهم في إعطاء هذه العلاقة شكلاً مؤسسياً. وفي سبيل تدعيم العلاقات التركية الإفريقية، استضافت تركيا في آب/ أغسطس عام 2008م، ” قمة التعاون التركي الإفريقي”، ليعلن الاتحاد الإفريقي بعدها مباشرة أن  تركيا هي” شريكه الاستراتيجي”.

ومن أجل تقييم المرحلة التي وصلت إليها العلاقات بين تركيا والدول الإفريقية وتحديد الطرق والوسائل الكفيلة بتعزيز هذه العلاقات، عقد في إسطنبول قمة التعاون التركية الإفريقية الأولى في الفترة ما بين 18 – 21 آب/أغسطس 2008 بمشاركة 49 دولة إفريقية وممثلو 11 منظمة إقليمية ودولية من ضمنها الاتحاد الإفريقي، وقد تم في هذه القمة اعتماد الوثائق التالية بالإجماع: “إعلان إسطنبول للتعاون التركي الأفريقي: التعاون والتضامن من أجل مستقبل مشترك” و”إطار التعاون للشراكة التركية الأفريقية”.

 ومن أجل تعزيز علاقاتها مع الدول الواقعة جنوب الصحراء الإفريقية قررت تركيا زيادة عدد ممثلياتها الدبلوماسية في هذه الدول وفقا لأهدافها المتعلقة بهذه الدول. وقد أصدر مجلس الوزراء القرارات المتعلقة بهذا الموضوع في الفترة ما بين 13 تشرين الأول/أكتوبر 2008 – 11 تموز/يوليو 2009، فتم بموجب هذه القرارات افتتاح 11 سفارة وقنصلية عامة واحدة جديدة، نوضحها في الشكل الآتي:

                                   سفارات تركيا جنوب الصحراء

              الدولة              العاصمة        تاريخ الافتتاح
         تنزانيا              دار السلام  18 آيار/مايو2009م
         ساحل العاج               أبيدجان 15 تشرين الثاني  /نوفمبر2009م
          الكاميرون               ياوندي 15 كانون الثاني/يناير 2010م
            غانا               أكرا 1 شباط/فبراير 2010م
            مالي             باماكو 1 شباط/فبراير2010م
            أوغندة            كامبالا 28 شباط/فبراير2010م
            انغولا              لواندا 2 نيسان/إبريل2010م
           مدغشقر            أنتاناناريفو 21 نيسان/إبريل2010م
           زامبيا             لوساكا 15 شباط/فبراير2011م
          موزمبيق            مابوتا 15 آذار/ مارس2011م
          موريتانيا            نواكشوط 15 نيسان/إبريل2011م

  كما افتتحت تركيا قنصلية عامة في جوبا بعد اعترافها بجمهورية جنوب السودان بتاريخ 9 تموز/يوليو 2011 وهو تاريخ إعلان استقلال جنوب السودان، وتجري الأعمال حاليا لتحويلها إلى سفارة.  وفي المقابل توجد في أنقرة سفارات لثماني دول واقعة جنوب الصحراء الإفريقية وهي أثيوبية وغامبيا وجمهورية جنوب إفريقيا وموريتانيا ونيجيريا والسنغال والصومال والسودان. وفي السنوات الأخيرة كانت كل من السنغال في عام 2006 والصومال في عام 2008 وغامبيا في عام 2010 قد افتتحت سفارات لها لدى أنقرة. وعلى ضوء ما تقدم، وبفعل النشاط الدبلوماسي التركي في إفريقيا فقد وصل عدد سفاراتها حتى اليوم إلى 39 سفارة فيها- بينما كان عددها في عام 2002م، سبع سفارات-، إضافة إلى أربع قنصليات عامة، وفي المقابل زاد عدد سفارات الدول الأفريقية في تركيا من ثمان إلى نحو عشرين سفارة.

وقد أثمر تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين دول الإفريقية وتركيا في انجاح مرشح الأخيرة “أكمل الدين إحسان أوغلو” في تولي منصب الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي العام 2005م، ونيل تركيا مقعد العضو غير دائم في مجلس الأمن في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2008م، حيث صوتت 51 دولة من إجمالي 53 دولة لصالح تركيا قبل أن يصبح عدد دول القارة 54 بعد استقلال جنوب السودان في يوليو/تموز2011م.

أما على مستوى الزيارات رفيعة المستوى في هذه المرحلة، فقد زاد عددها إلى القارة الإفريقية. إذ قام رئيس الجمهورية التركية الأسبق “عبد الله غل” بزيارات رسمية إلى كل من إلى كينيا وتنزانيا في عام 2009م، وإلى جمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون ونيجيريا في عام 2010م، وأخيرا إلى غانا والغابون في الفترة ما بين 23-26 آذار /مارس2011م. وعليه فإن البعد الدبلوماسي المبني على فتح السفارات بين تركيا والدول الأفريقية والزيارات المتبادلة بينهما كان مدخلا لتعزيز مصالح تركيا العليا في إفريقيا.

2المرحلة الثانية(2011- وحتى يومنا هذا): وهي مرحلة الاهتمام التركي بالوضع في الصومال، فقد ألقت الضوء على ما يعانيه الشعب الصومالي، وأطلقت حملة إنسانية  تجاه مقديشو لتأسيس وجود كبير هناك، وتبنّت مشروعات هدفت إلى مساعدة الصومال على تطوير بنيته التحتية. وكان رئيس الوزراء السابق ورئيس جمهورية تركيا الحالي “رجب طيب أردوغان” في عام 2011م، هو أول زعيم غير أفريقي زار الصومال منذ حوالي عقدين، حيث افتتحت تركيا سفارة لها في مقديشو. وفي زيارته الأخيرة للصومال في كانون الثاني/يناير عام 2015م، تعهد رئيس الجهورية التركي ببناء 10 آلاف وحدة سكنية في الصومال لإعادة تأهيل للمحتاجين، إلى جانب إعادة ترميم وتوسيع ميناء مقديشو الدولي.

 وفي سياسة المضي في دعم الصومال، استضافت مدينة اسطنبول “المؤتمر الصومالي الثاني” خلال عام 2012م، تحت عنوان “تحديد المستقبل الصومالي أهداف عام 2015″، بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة وبمشاركة 57 دولة، و11 هيئة إقليمية ودولية، ونوقشت خلاله قضايا ملحّة، مثل المياه والطاقة والطرق والنزعات الانفصالية.

أما على مستوى الزيارات الدبلوماسية في هذه المرحلة، فقد تضاعفت تلك الزيارات بين القيادة تركيا وقادة الدول الأفريقية، ونشير هنا فقط للزيارات التي قام بها رئيس الوزراء التركي السابق ورئيس الجمهورية الحالي “رجب طيب أردوغان” لدول إفريقيا، خلال عام 2014م، حيث زار 12 دولة إفريقية، وهذا مؤشر واضح على أهمية إفريقيا في السياسة الخارجية التركية.

  وفي مطلع هذا العام، قام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بزيارة  كل من جيبوتي  وأثيوبيا والصومال في كانون الثاني/ يناير 2015م، ففي كلمته التي ألقاها في منتدى الأعمال التركي الجيبوتي، أكد الرئيس التركي أن دولته “دائماً وقفت بجانب قارة إفريقيا، وستستمر في ذلك باعتبار أنها دولة تدرك جيداً حجم المشكلات في القارة السمراء، وحجم الإمكانيات التي تتمتع بها”. وقال أيضًا: “دولة جيبوتي واحدة من دول القرن الإفريقي المستقرة التي تحرز تقدماً على مسار التنمية كما تعد في الوقت ذاته واحدة من أهم المراكز الإفريقية لما تتمتع به من إمكانيات اقتصادية وموارد بشرية، وهي دولة ذات ثقل في علاقاتها الدولية بالمنطقة”.

وأضاف: “الزيارة التي أُجريتها لجيبوتي تعد مؤشراً على مدى اهتمامنا بهذه الدولة الصديقة والشقيقة، حتى ولو جاءت متأخرة بعض الشيء”، مشيراً إلى أن علاقات تركيا بالدول الإفريقية شهدت قفزات كبيرة خلال السنوات العشر الماضية، موضحاً أن دولته تتبنى في علاقاتها الافريقية سياسة قائمة على استراتيجية تعميق تلك العلاقات بمرور الأيام في كافة المجالات.

وشدد على أهمية القارة الإفريقية بالنسبة لدولته “فلها أهمية كبيرة، قائمة على أواصر الصداقة والأخوة، فضلا عن البعدين التجاري والاقتصاد”، مؤكداً على ضرورة رفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وجيبوتي إلى 200 مليون دولار.

وفي زيارته لأثيوبيا ومن خلال كلمته التي ألقاها في جامعة” أديس أبابا” حيث أُعطي الدكتوراه الفخرية قال:” إن اهتمامنا بهذه المنطقة لا يشبه اهتمام البعض بدافع الطمع في خيرات موارد البلاد والماسها. إن اهتمامنا بها يأتي من منطلق إنساني بالدرجة الأولى”. فهو هنا يوجه رسالة نقد ضمنية للأسلوب الأوروبي والأمريكي المبني على الإمبريالية والغطرسة، والأسلوب الصيني والهندي الذي مفادهما: “أعطني النفط والمواد الخام، وستحصل على دعمي غير المشروط” هذا الأسلوب الذي يتسم بالتهور ويجعله متواطيء في انتهاكات حقوق الإنسان.

ونظرًا لتناقض وصراع المصالح بين الدول الكبرى في بيئة إقليمية ما، كالبيئة الإفريقية، لفت الاهتمام التركي بالجانب الإفريقي، انتباه فاعلين دوليين، أبدوا رغبتهم في التعاون مع تركيا في هذا الصدد، إذ عقد مسؤولون أتراك مشاورات مع مسؤولين من الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا والمملكة المتحدة والسويد والاتحاد الأوروبي بشأن التعاون في القارة الإفريقية، وقد اقترح بعض الدول مثل فرنسا، أن تنفذ تركيا بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بعثات تجارية مشتركة في إفريقيا لمواجهة نجاح الصين في الاستحواذ على جانب كبير من الصفقات التجارية مع الدول الأفريقية.

ثانيًا- الدوافع والأهداف في التوجه التركي نحو إفريقيا:

تسير السياسة الخارجية التركية صوب إفريقيا مدفوعة بعدد من الدوافع، منها دافع التوازن الحضاري بين إرث الماضي ومعطيات الحاضر، حيث تعطي أنقرة أولوية قصوى لتحقيق مصالحة تاريخية مع محيطها العربي والإسلامي والإفريقي وإقامة شراكة استراتيجية مع هذه الدول. أما الدافع الاستراتيجي، فلدى حكومة العدالة والتنمية قناعة بأن أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية مرتبط أكثر بمحيطها العربي والإسلامي، ما يدفعها إلى إقامة شراكة استراتيجية مع الدول العربية والإسلامية والإفريقية.

  وفي هذا السياق، يؤكد رئيس الوزراء التركي “أحمد داود أوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي” على دور ومكانة تركيا في الجماعة الدولية، بمعنى أن الدولة التركية لم تعد دولة طرفية أو جسرية كما رسمها الغرب لها في أثناء وبعد الحرب الباردة، وإنما دولة مركزية في بيئتها الإقليمية والدولية.

ويمثل الدافع الديني عنصراً مهماً في دفع تركيا نحو إفريقيا. حيث يذكر هنا، أن إدارة الشؤون الدينية في تركيا لم تكن، تاريخياً، تؤدي أي دور على مستوى السياسة الخارجية، وكان دورها مقتصراً على تلبية احتياجات المسلمين داخلها، إلا أن ذلك تغيّر في عهد السياسة الخارجية التركية الحالية النشطة ومتعددة المستويات. وأصبح “الدِين” أحد أبعاد قوة تركيا الناعمة بخاصة في إفريقيا، ما انعكس على دور الإدارة الدينية، ومن أدوارها الآن جمع القيادات الدينية الإفريقية للاجتماع في اسطنبول، وهذا تحول مهم لتركيا، الدولة العلمانية وفق دستورها.

وبهذا الصدد تعد استضافة تركيا لقاء رجال الدين الإفارقة في اسطنبول عام 2006، والذي ضمّ ممثّلين عن 21 دولة، مؤشراً الى نقطتي تحوّل كبيرتين في السياسة الخارجية التركية، الأولى، تغيّر رؤية الدولة في التعامل مع الجماعات والمؤتمرات ذات التوجه الديني، إذ أصبحت تراها وسيلة لتحقيق المصالح القومية التركية بالقوة الناعمة، والثانية إدراك تركيا أن استكمال سياسة الانفتاح على إفريقيا ودعمها يتطلبان توظيف البعد الديني.

أما عن الدافع الاستخباري، فقد اوجبه ادراك القيادة التركية أنها قطعت مرحلة من التطور الاقتصادي والاستقرار السياسي والمنعة العسكرية داخليا، وأنها بحاجة إلى جمع المعلومات الكامنة عما يجري حولها في محيطها الخارجي وخاصة إفريقيا.

ويأتي الجانب الاقتصادي في مقدمة الدوافع التي تحرك رغبة تركيا تجاه إفريقيا ذات الموارد الكبيرة والمتنوعة والأسواق الواعدة وفرص الاستثمار غير المتناهية، في ظل سعي محموم بين قوى آسيوية صاعدة مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية وإيران فضلا عن الدول الأوروبية والولايات المتحدة والبرازيل للاستفادة من الخيرات الوفيرة في القارة.

فإفريقيا اليوم القارة صاحبة الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم، وبحسب معطيات صندوق النقد الدولي، فإن 10 دول إفريقية تقع على لائحة الدول الـ 64 الأسرع نمواً في عام 2014م، لذلك فإن إفريقيا تجذب انتباه الدول المتقدمة بشكل مختلف عما جرت عليه العادة في السابق. النظرة الآن مختلفة، لأنه في السابق لم تكن النظرة الى إفريقيا بالنسبة للدول المتقدمة سوى على أنها فرصة استعمارية جيدة، للحصول على ثروات مصادرها الطبيعية.

ولم يكن الاستعمار واستغلال الثروات والمصادر الطبيعية لهذه القارة سببًا لأي تطور فيها، فبينما كانت الدولة المتقدمة تستعمر إفريقيا لتقدم الرفاهية لشعوبها، كانت تتدخل في كل شؤون الدول الإفريقية وتعيق تقدمها وتسيطر على إدارتها وحدودها. بينما رات تركيا في إفريقيا فرصة للانفتاح الاقتصادي، لذا ارتكز الدور التركي على تقديم المساعدات التنموية والعلاقات التجارة، وأولت اهتمامها الأكبر للمساهمة في نهضة الدول الإفريقية، من خلال تسعة مكاتب لمؤسسة التعاون التركي “تيكا” والتي تقدم خدماتها في إفريقيا بمجال المشاريع الخدمية الطبية ومشاريع الإنماء الزراعي ومصادر المياه، كما إن تركيا أصبحت إحدى أكبر الدول المتبرعة من خلال مساعداتها المالية التي تجاوزت 300 مليون دولار. أما على مستوى التبادل التجاري فقد وصل حجم بين تركيا ودول إفريقيا إلى 24 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2014م، بينما كانت 3مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2002م. أما عن الاستثمار التركي في إفريقيا فقد بلغ 6 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2013م.

وعلى الجانب الإفريقي لقى التحرك التركي نحو إفريقيا استجابة إيجابية، لاعتبارات عدة، منها: سعي إفريقيا لإقامة علاقة إيجابية مع تركيا وخاصة أن الأخيرة الحديثة ليس لديها ماض احتلالي أو استعماري مع القارة، والاستفادة من التجربة التركية لاسيما في مجال الاستثمار بالبنية التحتية التي تحتاج إليها معظم الدول الإفريقية وخاصة الخارجية من صراعات وحروب، والحصول على الدعم الإنساني والاقتصادي، لاسيما بعد أن استجابت تركيا لبعض النداءات الإفريقية لتوفير المساعدات التنموية والإنسانية لبعض الدول المنكوبة بالصراعات والحروب الأهلية والكوارث الطبيعية من خلال مؤسسة “تيكا”. وسعيها أيضًا – أي- إفريقيا لنيل الدعم السياسي والأمني، للاستفادة من الدعم التركي في خدمة القضايا الأفريقية في المحافل الدولية خاصة في إطار الأمم المتحدة وكذا الاستفادة من المساعدات التركية وخاصة في المجال الإنساني.

وبهذا التلاقي الإيجابي بين الدول الإفريقية وتركيا، يمكن للأخيرة أن تحقق أهدافها في القارة الإفريقية وهي على النحو الآتي:

– الدفاع عن بقاء مصالح تركيا في بيئتها الإقليمية المتنوعة وذلك من خلال فك طوق العزلة الأوروبية المفروضة عليها سياسيا واقتصاديا، كي تتمكن من الخروج من هذه العزلة المفروضة عليها إقليميا لتتجاوز المسرح الإقليمي إلى ما وراءه “إفريقيا”، والحصول على أكبر تأييد دولي لوجودها وسياساتها من جانب، فضلا عن السعي لخلق تيار مناهض لمنافسيها في إفريقيا من جانب ثان.

– خلق مجال حيوي لطاقاتها وإمكانياتها الإنتاجية والفنية، على نحو يؤدي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية من زيادة التبادل التجاري وخلق سوق واسعة للصادرات الصناعية التركية  وضمان مورد هام للخامات، وخلق مجالات عمل جديدة للخبرات الفائضة لدى تركيا.

الخلاصة:

ذهبت بعض التحليلات السياسية العربية بالقول أن انفتاح السياسة الخارجية التركية نحو إفريقيا، جاء بالأساس، لتعويض خسارتها الجيوسياسية في سوريا إثر اندلاع الانتفاضة السورية في 15 آذار/مارس2011م، والتي لا تزال تداعياتها مستمرة واحتمالاتها مفتوحة على كل المسارات. وتعويض خسارتها أيضًا في مصر خاصة بعد عزل الرئيس محمد مرسي عن الحكم في تموز/يوليو2013م. ونرى في هذه التحليلات ما يجانبها الصواب لأمرين: أولهما، أن الاهتمام التركي المتزايد بإفريقيا جاء بعد قدوم حزب العدالة والتنمية للحكم في18 تشرين الثاني/نوفمبر من  العام 2002م.وعليه فإن هذا الاهتمام سابق على وقوع الانتفاضة السورية وعزل الرئيس محمد مرسي. لكن هذا لا يعني أن السياسة الخارجية التركية لم تتعرض لخسائر في تلك الدولتين. ثانيهما، أن حكومة العدالة والتنمية في تركيا والتي تتطلع في عام 2023م، وهو العام الذي يصادف الذكرى المئوية لقيام الدولة التركية المعاصرة، في أن تصبح عاشر اقتصاد على المستوى العالمي، وبناتج قومي يقارب 2 تريليون دولار أمريكي، لذا تبني سياساتها الخارجية وفق رؤى اقتصادية ودبلوماسية واضحة المعالم، ولا تبنى على رد الفعل. فهي تختلف عن مثيلاتها العربية.

ويمكن القول بأن تركيا ماضية في توجهاتها وجهودها الدبلوماسية والاقتصادية في القارة الإفريقية، ولكن هذا التوجه والجهد قد يجابه بعوائق من داخل القارة تحول دون الوصول إلى الأهداف المنشودة بين تركيا والدول الإفريقية، وتحديات من خارجها قد يقيد تحركاتها، ففي الجانب الاقتصادي هناك بعض المعوقات أهمها: عدم استجابة الجهات الإفريقية لمحاولات الجانب التركي للاستثمار في إفريقيا وعدم معرفة رجال الأعمال الافارقة بالسوق التركي. وضعف مشاركة الدول الإفريقية في المعارض التركية. وتنوع وعدم وضوح القوانين الخاصة بالاستثمار في إفريقيا مما يجعل المستثمر أقل حماسا وأكثر خوفا وعدم الجدية لدى بعض المؤسسات الإفريقية. ثم ضعف إمكانيات المكاتب التجارية الإفريقية في أنقرة بالمقارنة بالمكاتب التركية في إفريقيا، ويبقى التحدي الذي يواجه تركيا هو ما ستفضي إليه جهودها، فإمّا أن تحقق انفتاحا اكبر وتحصل على مكانتها التي تسعى إليها على المستويين الإقليمي والدولي، وإما أن يكون كل ما تقوم به رهينا بظروف القارة المأزومة، وأسيرا لتعثر خطط ومبادرات الاستثمار والتنمية فيها.

ولعل أهم التحديات التي تواجه تركيا في القارة الإفريقية تتمثل في التنافس الإقليمي والدولي عليها، فإيران وإسرائيل والهند والصين وغيرهما من الدول الكبرى لن تسمح لتركيا بأن تحقق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاستراتيجية دون تعطيلها أو تقاسمها أو على أقل تقدير تقسيم مناطق النفوذ فيها، فالقارة الإفريقية ليست طريق يفرش بالورود، كي تسير عليه بيسر السياسة الخارجية التركية، وإنما مليء بالأشواك المرتقبة التي تحتاج لإزالتها. وهو التحدي الحقيقي لها هناك.

 د.معمر فيصل خولي

مركز الروابطللبحوث والدراسات الاستراتيجية