هل يعرض هجوم مانشستر قوة “داعش” أم ضعفه؟

هل يعرض هجوم مانشستر قوة “داعش” أم ضعفه؟

بعد عشر ساعات من قيام سلمان العبيدي بتفجير نفسه خارج مسرح مانشستر، حيث كانت نجمة البوب الأميركية، أريانا غراندي، تؤدي عرضها الفني، ادعى تنظيم “داعش” مسؤوليته عن الهجوم المروع الذي أسفر عن مقتل نحو 20 شخصاً وخلّف العشرات من المصابين. وتفاخرت المجموعة على أحد تطبيقات الرسائل الاجتماعية، وبلغات عديدة، بالقول: “بحمد الله وتأييده، تمكن جندي من الخلافة من وضع عبوات متفجرة وسط التجمعات في مدينة مانشستر البريطانينة الصليبية”. لكن الشيء الغريب -بالنسبة لمجموعة لطالما كانت حكيمة فيما يتعلق بمزاعمها ودقيقة في حقائقها- هو أنها فهمت التفاصيل الرئيسية بشكل خاطئ.
كانت التناقضات ومواطن الخلط واضحة -وخرقاء. ففي أحد المزاعم المبكرة، أشارت الرسالة إلى وجود “مفرزة أمنية”، كما لو كان هناك العديد من الناشطين المشاركين. وعنى ذلك ضمناً أن الهجوم ضم العديد من القنابل التي تُركت في الموقع. وفوتت الرسالة حقيقة أن قنبلة واحدة هي التي فُجرت في عملية انتحارية واحدة. ولم تشر الرسالة إلى “شهيد”، كما تفعل عادة عندما يُقتل الجناة. ولم تذكر اسم العبيدي أو تدعي انتماءه إليها.
وقال لي مسؤول أميركي لمكافحة الإرهاب يوم الاثنين الماضي: “إنه يبدو مثل عمل ‘داعش’”، بينما كان التحقيق البريطاني في الهجوم ما يزال جارياً. ومع ذلك، أثارت الأخطاء في رسالة “داعش” أيضاً تكهنات حول مدى سيطرة التنظيم الحقيقية على العمليات الخارجية، واتصالاته مع الناشطين والمتعاطفين، وحتى مدى وصوله إلى الأخبار التي كانت قد ذكرت مسبقاً أساسيات الهجوم. وإذن، إلى أي حد تم تعطيل آلة “داعش”؟
كانت مناطق “الخلافة” المادية لتنظيم “داعش” تتقلص باطراد، ميلاً وراء ميل دمرته الحرب، منذ بداية الحملة العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وقد فقد “داعش” الآن ستة وستين بالمائة من المناطق التي استولى عليها في العام 2014 في العراق، ونصف مناطقه تقريباً في سورية، كما أخبرني مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية. وكان حجم مناطق التنظيم يماثل ذات مرة مساحة ولاية إنديانا، أو بلداً مثل الأردن. وحتى الآن، تم “تحرير” نحو أربعة ملايين شخص من حكم ،”داعش”، وما يزال هناك 2.7 ملايين في العراق و1.4 مليون تحت حكمه في سورية، كما قال المسؤول.
كما أن الغالبية العظمى من المقاتلين الأجانب في ساحات القتال في العراق وسورية قد قتلوا، وفقاً للمسؤولين الأميركيين. ومنذ العام 2014، كان أربعون ألف مقاتل أجنبي على الأقل من جميع أنحاء العالم قد جاؤوا إلى مناطق “الدولة الإسلامية”؛ وما يزال هناك نحو ربعهم في ساحة المعركة. أما البقية، فقد قتلوا أو تخلوا عن القتال. وفي الموصل، التي كانت ذات مرة أكبر مدينة في شبه دولة “داعش” الزائفة، فإن لدى التنظيم الآن “أقل من ألف مقاتل فعلياً” يواصلون القتال في مسعى يائس إلى التمسك بالقطاع الصغير، وإنما المكتظ بالسكان، من المدينة القديمة، كما قال المسؤول.
بينما تتصاعد خسائره العسكرية، حوَّل “داعش” آلته الدعائية المتطورة على الإنترنت إلى كتاب إرشادي لمهمات الذئاب الوحيدة بعيداً عن مناطقه الخاصة. ونشرة التنظيم الأساسية هي المجلة الأنيقة متعددة اللغات، الرومية، التي أخذت اسمها من نبوءة بأن المسلمين سوف يتمكنون يوماً من غزو مدينة روما، التي تشكل رمزاً للمسيحية والغرب. وقد حلت الرومية محل مجلة “دابق”، التي أخذت اسم بلدة سورية حيث زعمت النبوءة بأن نهاية العالم ستحدث هناك. ثم في العام الماضي، فقد “داعش” بلدة دابق. وتغيرت مواقعه واسم نشرته.
يبدو أن مجلة “الرومية”، التي انطلقت في الخريف الماضي، قد أحدثت تأثيراً. وكتبت المجلة في تشرين الأول (أكتوبر): “أولئك المسلمين الذين يقيمون في الغرب بشكل خاص، لديهم فرصة لترويع الصليبيين بأنفسهم”. وفي إصدارين مبكرين، كانت المجلة قد دعت الجهاديين الوحيدين في أوروبا والولايات المتحدة إلى شن هجمات بالسكاكين، وأن يقودوا السيارات إلى الحشود في المهرجانات الخارجية والأسواق والتجمعات السياسية أو الشوارع المكتظة بالمشاة. وبعد ذلك بوقت قصير، اقتحم عبد الرزاق علي أرتان بسيارته المشاة في حرم جامعة ولاية أوهايو، ثم قفز من السيارة وطعن آخرين. وقال المسؤولون الأميركيون بعد ذلك إنهم يعتقدون أن أرتان استلهم تنظيم “داعش”.
وفي آخر نشره له على الإنترنت، والتي صدرت الشهر الماضي، يعرض “داعش” تكتيكاً جديداً للإرهاب. فهو يدعو أتباعه “في أراضي الكفر” إلى استخدام مواقع إلكترونية مثل Craigslist وeBay لجذب الضحايا إلى مقابلات حيث يمكن أسرهم كرهائن. وتقترح نشرة “داعش” الإعلان عن وظائف، وعقارات للبيع أو الإيجار، أو عرض مبيعات على الإنترنت كطرق لعقد لقاءات في أماكن مسيطر عليها. وليس الهدف من هذه العمليات هو الاستخدام التقليدي للأسير للمطالبة بفدية أو للمبادلة، وإنما الهدف هو إعدام الرهائن وترويع العدو. ويقول التوجيه: “حتى تكسب العملية شعبية كبيرة وتزرع الرعب بطريقة أكثر فعالية في قلوب الكفار، يستطيع المرء أن يحتفظ ببعض الضحايا أحياء ومقيدين، مما يجعل سيناريو الرهينة أكثر طولاً”.
أصبحت “تكتيكات الإرهاب العادل” الآن موضوعاً متكرراً في مجلة “داعش” التي تقترح سيناريوهات لأخذ الرهائن في النوادي الليلية، وقاعات السينما، ومراكز التسوق -أي مكان مغلق مزدحم، والذي “يسمع للمرء بأن يذبحهم بينما يستخدم المبنى كدفاع طبيعي”.
يتوسع “داعش” وينكمش من أجل البقاء، كما يقول مسؤولون أميركيون. وقال لي المسؤول في وزارة الخارجية: “يعود ‘داعش’ الآن إلى جذوره ويستخدم الهجمات الإرهابية لمحاولة الدفع برسالته وأيديولوجيته. إنه يحاول أن يحتفظ بتأثيره وقدرته على نشر أيديولوجيته. وهو يشن هذه الهجمات ليظهر للناس أنه ما يزال يستطيع القيام بتلك العمليات وأنه ما يزال يشكل قوة كبيرة ومهمة. هذه المعركة بعيدة تماماً عن الانتهاء”.
ويفعل تنظيم “القاعدة” الكثير من الشيء نفسه. فقد نشر التنظيم شريط فيديو هذا الشهر بعنوان “مجاهد وحيد أو عدو وحيد”. وهو يطلب من المتعاطفين في الغرب شن هجماتهم الخاصة. ويقول الراوي في الشريط: “أخي المجاهد، إننا لا ننظر إليك كفرد. إننا نراك مجموعة، كتيبة، أو حتى جيشاً كاملاً”. ويضيف الراوي: “خذ الأمر بسهولة وبساطة، تماماً كما فعل أخوك عمر المتين”، الذي فتح النار في ملهى ليلي في أورلاندو في العام الماضي وقتل تسعة وأربعين شخصاً.
ربما يؤدي التقويض المادي لشبه الدولة التي يحكمها “داعش” إلى زيادة خطر هجمات الذئاب الوحيدة في الغرب، كما أخبرني الخبراء. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، انضم ما يقدر بنحو خمسة آلاف أوروبي إلى الحركات المتطرفة في سورية والعراق؛ وقد عاد نحو 20 بالمائة منهم إلى بلدانهم الأصلية، وفقاً لعلي صوفان، العميل السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركي ومؤلف الكتاب الجديد “تركيبة الإرهاب: من مصرع ابن لادن إلى صعود الدولة الإسلامية”. وقد انضم ما وصل إلى ثمانمائة مواطن بريطاني إلى “داعش” والحركات المتطرفة الأصغر، كما أخبرني مسؤول بريطاني.
وقال لي صوفان: “حتى لو أنهم لا يعودون إلى أوروبا، فإنهم سيظلون قادرين على إلهام الهجمات، أو الطلب من أصدقاء وزملاء وأفراد من العائلة المشاركة في عمليات في المجتمعات الغربية”.
يشبه تفجير مانشستر إلى حد مقلق الهجمات السابقة في باريس وبروكسل ونيس وبرلين ولندن ومدريد. لكنه يتميز عنها مع ذلك بسبب الأسئلة الجديدة التي يثيرها عن “داعش”. وما تزال أمام التحقيق طريق طويلة ليقطعها –وربما لا يكون التهديد المباشر قد انتهى أيضاً. وقد رفعت بريطانيا درجة التأهب ضد الإرهاب إلى أعلى مستوى في وقت متأخر من يوم الاثنين الماضي، تحسباً لاحتمال وقوع هجوم ثانٍ. وانتهى ادعاء “داعش” المسؤولية عن الهجوم الأول بتحذير مشؤوم: “ما سيأتي تالياً سيكون أكثر شدة على عبدة الصليب وحلفائهم، بإذن الله”.

روبن رايت

صحيفة الغد