العراق عالق في مأزق الحشد الشعبي.. قضية ستحدد مستقبل البلد

العراق عالق في مأزق الحشد الشعبي.. قضية ستحدد مستقبل البلد

  • ينغمس العراق حاليا في صراع سياسي شيعي داخلي تدور رحاه حول السيطرة على الدولة ومستقبل الحشد الشعبي. وتعلم إيران أن لا مجال لتستكمل سيطرتها المطلقة على العراق في حال لم يكن لها الكلمة “الشيعية” العليا؛ فوجود حكومة صديقة وميليشيات مسلحة موالية لا تكفيان لتبسط نفوذها بشكل كامل على البلاد. ويدفع هذا الوضع الخبراء والمتابعين للشأن العراقي إلى الحديث عن صراع شيعي- شيعي متوقع في المرحلة القادمة بعد إغلاق صفحة تنظيم الدولة الإسلامية، وسط حديث عن توجه المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني إلى إصدار فتوى تبطل فتوى الجهاد الكفائي التي تكوّنت بموجبها هيئة الحشد الشعبي ووجدت من خلالها الميليشيات التابعة لإيران غطاء للدخول بقوة كفاعل رئيسي في ما يجري في البلاد.
  • كشفت مصادر عراقية مطلعة عن انضمام فرقة العباس القتالية، التي تضم متطوعين لبّوا فتوى الجهاد الكفائي إلى تشكيلات وزارة الدفاع العراقية، ملغية ارتباطها رسميا بهيئة الحشد الشعبي.

    وذكرت المصادر أن هذه الخطوة قد تفتح الطريق أمام المرجع الديني الأعلى في النجف السيد علي السيستاني، الذي أطلق فتوى الجهاد الكفائي إلى إصدار فتوى مضادة تقضي بانتفاء الحاجة إلى الجهاد الكفائي، بعد الانتهاء من عمليات استعادة تلعفر والحويجة والشرقاط والبعض من المناطق في غربي الأنبار.

    تزامنت المعلومات مع تصريحات المتحدث الرسمي باسم مقتدى الصدر صلاح العبيدي لقناة دجلة الفضائية العراقية أكد فيها أن هناك شخصيات تسعى إلى تحقيق مآربها الشخصية عن طريق الحشد الشعبي واستفزاز الحكومة، في إشارة إلى رئيس الحكومة السابق نوري المالكي.

    وأعرب العبيدي عن أمله في أن لا يتحول الحشد إلى أداة لابتزاز الحكومة وتحقيق المآرب الشخصية، ومؤكدا أن هناك شخصيات ترى في الحشد مكانا للامتيازات.

    تعكس الخطوتان اللتان اتخذهما السيستاني والصدر مؤخرا رغبة الطرفين في تنسيق المواقف الشرعية والشعبية الممهدة لحل الحشد الشعبي، تماشيا مع المطالبات الدولية والإقليمية، لا سيما الأميركية منها، ومطالبات الأكراد والعرب السنة.

    ويقدر عدد مقاتلي الحشد الشعبي بأكثر من 60 ألف مقاتل من ميليشيات وجماعات مسلحة مختلفة. وتأسست هذه القوات بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل.

    وكشفت مصادر مطلعة لـ”العرب” عن أن مصير قوات الحشد الشعبي والميليشيات المدعومة من إيران يُعدّ أحد أبرز التحديات السياسية التي ستواجه الحكومة العراقية وشركاءها في التحالف الدولي، خلال المرحلة المقبلة، متوقعة نشوب خلاف حاد داخل البيت الشيعي بسبب تعدد (التقليد) للمرجعيات، وبخاصة مرجعية المرشد الأعلى في إيران آية الله علي خامنئي.

    وتوقعت المصادر أن يندلع صراع قوي بين أتباع المرجع السيستاني من جهة، وبين أتباع خامنئي. وسيحاول الطرف الإيراني عرقلة السيد السيستاني بشتى الوسائل والطرق، حتى لا يصدر فتوى تلغي شرعية الحشد الشعبي، ما يفتح صفحة اقتتال شيعي (عراقي) وشيعي (إيراني).

    ويتوقع اللواء هاشم السامرائي، المحلل الاستراتيجي المختص بالشأن العراقي، أن مثل هذا الاقتتال إذا ما وقع، فإن المستفيد الأكبر منه سيكون إيران التي ستضمن سيطرة تامة وعلنية على حوزة النجف ومرجعيتها، بحجة (حقن دماء أبناء المذهب)، لكن الهدف الخفي هو السيطرة على مدن الفرات الأوسط والجنوب الشيعية ومطاردة العدو الشيعي العروبي المعارض.

    ويقول السامرائي لـ”العرب” إن مرجعية النجف باتت مهددة، وسنجد أن ساحة الصراع الشيعي المقبل ستكون السيد السيستاني وولده ومرجعيته، خصوصا وأن ممثل السيستاني بارك، في آخر خطبة جمعة، لقطعات الجيش العراقي نصرها المحسوم على داعش، ولم يذكر في مباركته مفردة الحشد، مما جعل أمراء الحرب وقادة ميليشيات إيران، يضعون علامات استفهام كثيرة، غذتها وأججتها كلمة العبادي لإعلان النصر من الموصل، التي تجنب فيها، أيضا، ذكر الحشد، واكتفى بالإشادة بالمرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني.

    ويقول مرجع ديني رفيع بدرجة آية الله العظمى طلب عدم ذكر اسمه، لـ”العرب”، إن إحداث الفوضى في المحافظات الشيعية لا سيما النجف، عملية سهلة جدا لأن أزمة الكهرباء والبطالة والمخدرات سبب كاف لتحريك الشباب، ومجرد شرارة صغيرة للخروج بتظاهرة ليلية كفيلة برد عنيف من القوات الأمينة لتبدأ خطة الهجوم على المراجع، بخاصة في ظل ضعف حكومي سواء في الخدمات أم في فرض القانون، وبالذات في مناطق المذهب الواحد ذات النفوذ المسلح مثل جنوب العراق وغزارة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة التي حازتها العشائر بعد احتلال العراق 2003.

    ويتابع أن إيران لن ترضخ، مرة أخرى، لما يريده السيستاني، كونه يضر بمصالحها ونفوذها في المنطقة، وإذا كانت قد رضخت لقراره بمنع المالكي من الحصول على الولاية الثالثة، فإن الأمر الآن مختلف جدا، وربما ستلجأ إلى وسائلها السرية والعلنية، سواء استبدال المرجع السيستاني، أم تشكيلها لتنظيم إرهابي جديد، مشيرا إلى أن “لدينا معلومات نحاول التأكد منها، مفادها أن إيران وفرت ملاذا داخل أراضيها لعدد من قيادات داعش”.

    بين السيستاني وخامنئي يبدو أنّ الجواب على سؤال من سينتصر في تحقيق أهدافه في العراق غير واضح في الوقت الراهن، ولكن المؤكد أن الصراع بينهما، وهو في الأصل صراع قديم بين مرجعيات النجف ومرجعيات قم، مازال مستمرا وهو اليوم أوضح من أي وقت مضى وأخطر بوجود ميليشيات الحشد الشعبي المسلحة والتي تنقسم بين جماعات موالية للسيد علي السيستاني وأخرى موالية لآية الله علي خامنئي.

    انقلاب حوزوي

    تقول مصادر نجفية إن الموالين لإيران داخل المرجعية الشيعية في النجف يتحركون وفقا لاستراتيجية سياسية تشمل أكثر من مرحلة، الأولى منها تهدف إلى تمكين البعض من قادة الميليشيات من السيطرة على الخارطة السياسية والانتخابية الشيعية المقبلة كمقدمة للسيطرة على الحكم في العراق، بعدها تأتي المرحلة الثانية والتي ستتم بالتعاون مع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي للإطاحة بالسيستاني وبقية مراجع الدين واستبدالهم بشخصيات موالية لنظرية ولاية، الفقيه فيما تستهدف المرحلة الثالثة الانتقال بالنظام السياسي في العراق إلى حكم ولاية الفقيه الذي يفتح الطريق لبلوغ المرحلة الرابعة من هذه الاستراتيجية وهي تثبيت طريق إيران ـ العراق ـ سوريا ـ جنوب لبنان.

    وعلى الرغم من حساسية الوضع داخل مرجعية النجف وفي محيطها الشعبي والحوزوي، إلا أن الفتوى المرتقبة للسيستاني، تتناغم وتتماشى مع سعي رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى لجم ميليشيات الحشد التي تدين بالولاء لإيران، لأنه بات يدرك جيدا أن عدم لجمهم سيجعل منهم قوة صاعدة ومؤثرة أقوى من العبادي نفسه.

    وتقول المصادر ذاتها إن العبادي تلقى إشارات إيجابية من مرجعية النجف تحثه على الاستعانة بدور أميركي للجم ميليشيات إيران، مثلما واجهت تنظيم القاعدة سنة 2006، على الرغم من إدراك المرجعية الشيعية في النجف أن من مصلحة واشنطن إذكاء الصراع الشيعي- الشيعي بكل الوسائل لأنها تعتقد أن هذا الصراع سيصب في صالح خططها في التخلص من الوجوه السياسية التي تصدرت المشهد العراقي طوال السنوات الـ14 الماضية، من خلال تأجيل الانتخابات وتشكيل حكومة إنقاذ أو طوارئ يكون العبادي رئيسا لها.

    يشار إلى أن فرقة الإمام علي القتالية التابعة لمرجعية السيستاني والألوية التابعة للعتبات المقدسة في النجف وكربلاء، تنتظر هي الأخرى دورها للانضمام كوحدات قتالية في المؤسسة العسكرية العراقية الرسمية، من خلال دور تنسيقي يضطلع به ميثم الزيدي قائد فرقة العباس القتالية.

    يرى المحلل السياسي عبدالأمير طارق، وهو من مدينة كربلاء، أن فتوى الجهاد الكفائي مشروع ككل المشاريع التي فرضت على العراق بعد الاحتلال.

    ويؤكد أن من أصدر الفتوى لن يستطيع إنهاءها لأن ذلك سيدخل العراق في بحور من الدم وسيكون هناك صراع شيعي شيعي بين أنصار مرجعية النجف والموالين لولاية الفقيه، واصفا ذلك بأنه “الصفحة المؤلمة ما بعد داعش وانتهاء معارك الموصل”.

    ويقول أستاذ الفلسفة ومباحثها في جامعة بغداد سابقا السفير الأسبق للعراق في إيران عبدالستار الراوي “إذا افترضنا جدلا إقدام السيد السيستاني على تعليق فتوى الجهاد الكفائي أو إيقافها أو سحبها فثمة أكثر من سبب يدعو لاستمرار أثر هذه الفتوى، الآن وفي المستقبل، بوصفها أداة تعبوية ووسيلة لحماية التجربة السياسية في العراق الموالية لولاية لفقيه”.

    ويذكّر الراوي بأن الفتوى جاءت في أعقاب تسليم نوري المالكي لمحافظة نينوى فاستحدثت المرجعية تشكيلا مسلحا عرف رسميا باسم الحشد الشعبي وعرف أيضا بعنوان جيش المرجعية المقدس، وانبثق التشكيل الجديد بذريعة محاربة تنظيم داعش الإرهابي والعمل على استعادة الموصل من قبضته، مشيرا إلى أن هناك عددا من الصفحات القتالية تنتظر جيش المرجعية سواء داخل العراق أم خارجه، لأن إحدى أهم مهمات جيش المرجعية هو القتال على الجبهة السورية والدفاع عن الرئيس بشار الأسد والانتصار لنظامه ضد خصومه.

    ويتابع أنه وفقا لقرار حكومة العبادي صدر قانون اعتبار الحشد قوة عسكرية رسمية وفقا للقانون، الذي أقره البرلمان العراقي في نوفمبر 2016، وطبقا لهذا الإجراء التشريعي فإن الحشد الشعبي (مولود الفتوى الكفائية) أصبح يحمل اسما وعنوانا وهوية، وهناك من يرى أن هذه الميليشيا في طريقها لأن تكون تنظيما مماثلا للحرس الثوري الإيراني وسوف يبقى قائما ما بقيت التجربة اللاهوتية في العراق، منوّها إلى أن فتوى الجهاد الكفائي أضفت “الشرعية” على الجماعات والميليشيات المسلحة وعلى استمرارها.

    ويلفت إلى أمر مهم هو أن مكتب حزب الدعوة والقوى الدينية الحليفة طور، نهاية سنة 2015، فتوى الجهاد الكفائي إلى ما يسمى بـ”الحشد التربوي” والجهاد “الثقافي”، لنشر التشيع في المدارس ذات الأغلبية السنية منتدبا لهذه المهمة مجاميع من رجال الدين وبالتنسيق مع مكتب المرجعية ووزارة التربية.

    ويوضح مصدر أمني عراقي لـ”العرب” أن إيران سعت، منذ البداية، إلى تشكيل ميليشيات مسلحة مرتبطة بها، تحت مسوغ معيّن لكنها استمرت واستخدمت لأغراض ليست لها علاقة بالهدف الذي استحدثت من أجله، ضاربا مثلا بجيش المهدي الذي وجد لحماية المراقد الشيعية خلال الاحتلال خشية تعرضها للهدم والنهب، وبعد انتهاء العمليات العسكرية واحتلال العراق وتوقف قصف الطائرات لم يجر حله، على الرغم من أن السيد السيستاني، وقتها، أبلغهم بأن الغرض من تشكيل جيش المهدي انتهى وعليكم حله ولكن أحدا لم يلتفت إلى ذلك، مشيرا إلى أن فصيل أبوالفضل العباس أوجد لحماية مرقد السيدة زينب في ريف دمشق، لكنه تحوّل إلى القتال في سوريا خارج منطقة السيدة زينب، بل خارج دمشق للدفاع عن النظام السوري.

    ويقول المصدر ذاته إن السيد السيستاني أدرك أن الحشد وجد ليبقى، ولذلك فلن يقدم على إصدار فتوى تراجعية بحله، خاصة بعد تصريح أبومهدي المهندس بأن “الحشد باق ولا أحد يستطيع حله وحتى إذا تم حله فسيعود مع أي حدث حيث سلاحه موجود وعناصره موجودة”، فضلا عن أن مَنْ مرجعه خامنئي أو كاظم حائري غير ملزم بتنفيذ ما يصدر عن السيد السيستاني، وسينفذ توجيه أتباع ولاية الفقيه.

    سيطرة تيار الخميني

    كشفت إيران بشكل صريح عن مقدار رهانها على الميليشيات الشيعية المكوّنة للحشد الشعبي في السيطرة على الأوضاع السياسية والأمنية في العراق وضبطها، محذّرة رئيس الوزراء حيدر العبادي من المساس بذلك الجسم شبه العسكري الذي تحوّل إلى ما يشبه الجيش الطائفي الرديف للقوات الحكومية.

    ويقول الباحث السياسي نزار السامرائي، الذي أمضى عشرين سنة في الأسر الإيراني إبان حرب الخليج الأولى وأصدر كتابا مهما عن تجربة الأسر بعنوان “في قصور آيات الله”، إنه “مع أن حل الحشد أمر افتراضي فإن العراق هو أكثر بلدان العالم التي تصدق فيها الافتراضات على الوقائع لكن علينا أن نسأل سؤالا محددا من الجهات التي لعبت دورا في صدور فتوى الجهاد الكفائي التي خرجت باسم السيستاني وما المصالح التي دفعتها لمثل هذه الخطوة؟ طالبا أن نقبل بفرضية أن هناك صراعا خفيا بين مدرستين دينيتين هما مدرسة النجف، التي لا تسلم بانحسار نفوذها لصالح مدرسة ولاية الفقيه التي ارتكزت ظاهريا على مدرسة قم”.

    ويتابع أن “الصراع قديم بين المدرستين النجفية والقمية حتى أن من يأتي مشبعا بالأفكار الفارسية فإنه عندما يتأقلم مع أجواء النجف العقائدية يبدأ يتحسس لمحاولات سلب النجف بريقها وإشعاعها التاريخي لصالح قم وربما سجل التاريخ استثناءات محدودة في هذا الصراع الصامت والذي يرتفع صوته أحيانا وخاصة عندما سلب الخميني الزعامة من رجال أقدر منه في فهم العقيدة الشيعية فانتزع الزعامة من النجف ولكن، وهنا المفارقة، ليس لصالح قم، وإنما لصالح حسينية جمران، التي أخذت الدور لنفسها حيث واجهت ربما لأول مرة اصطفافا نجفيا قميا لأنهما وجدا في ظاهرة الخميني خطرا ليس عليهما فقط وإنما على عقيدة التشيّع برمتها”.

    ويفيد السامرائي بأنه “إذا كانت النجف تتململ بحشرجة أعلى من قم فليس معنى ذلك أن الأسانيد المطروحة في النجف أكثر نضجا أو عمقا مما يدور داخل أصحاب رؤوس آيات الله العظام، الذين تم تجريدهم من كل شيء، لا بفعل دروس الخارج أو الكتب المقنعة، وإنما بفعل سيطرة تيار الخميني على وسط هائل من رعاع الشارع الشيعي في إيران وساحات خارجية، ولا شك أن وصول خامنئي إلى مقعد المرشد وهو الذي يطعن مدرسو قم بخاصة في جدارته العلمية ما يعزز دور الشارع في انتزاع القيادة من الزعامات الدينية إلى الزعامات السياسية”.

    ويؤكد أن “هذه هي النقطة التي يكمن فيها جوهر الصراع الدائر في الخفاء بين السيستاني المعزول شعبيا والمدعوم علمائيا وخامنئي الذي يحمل رصيدا شعبيا قويا وتأييدا من مجموعة من رجال الدين المنتفعين في العراق وإيران ولبنان مع مجموعة من المغامرين من منتسبي الحرس الثوري وسلطة الدولة الإيرانية وميليشيات العراق ولبنان”.

  • سلام الشماع
  • صحيفة العرب اللندنية