في صراع المظلوميات

في صراع المظلوميات

مع احتدام الصّراع الطّائفي والإثني في المنطقة على خلفية أحداث العراق وسوريا، ومؤخراً اليمن، يتولى بعض الكتاب والإعلاميين مهمة تمثيل الخطاب التبريري لجماعاتهم عبر إيراد الأدلة على الانتهاكات التي تتعرض لها من قبل الجماعة الاخرى ـ وتجاهل تلك التي ترتكبها الجماعة التي ينتمي كل منهم اليها.

في هذا الخطاب لا يحاول هؤلاء التناغم مع المشاعر الشعبية فقط، او تملق السلطة السياسية او المالية الداعمة لهذا الخطاب وحسب، بل وأيضاً أن يصنعوا سردية تغلّف “القبح” البدائي للمشاعر الطائفية في مخاطبة عالم يُعنى اليوم كثيراً بجماليات الكلام وبالصوابية السياسية.

تظل فكرة المظلومية عنصراً رئيسياً في هذا النوع من الخطاب، لأنها تستنهض الغرائز الكامنة للجماعة وتصنع المنطق التبريري للانتقام. ويدخل تنافس المظلوميات الراهن اليوم في إطار ماكينة الصراع المشتغلة ليمثل وقودها النفسي: فكلما كان الظلم أكبر، وتكرّس كحقيقة، كانت رغبة الانتقام ضد “الظالِم” أكثر حدة.

 مَن عانى أكثر؟

المنطق القائم على التنافس حول “مَن عانى أكثر” هو منطق غير مؤسَّس على رغبة إنهاء المعاناة، بل على إثبات أن ما يُرتكب بسبب تلك المعاناة مبرر. ومشكلة هذا المنطق أنه أولاً انتقائي في قراءته لما حدث، يميل الى تضخيم معاناة الـ “نحن” وتجاهل معاناة الـ “هم”، وهو ثانياً يقوم على تحويل الجماعة الى كيان “جوهراني”، فنحن مظلومون لأننا أولاً وأخيراً هذه الجماعة بعينها، وهم ظالمون لأنهم هم الجماعة الأخرى.

وهكذا تتصلب الحدود بين الجماعتين، ويغدو الحياد بينهما خياراً صعباً، ويغدو الآخر بمحض وجوده مدعاة للقلق لأنه قاتل أو جلاد محتمل. يمكن وصف ذلك بحالة “الاحتفاء بالمظلومية”، هو احتفاء لأنه معنيّ بالدرجة الأولى بإعادة إنتاج السردية السياسية للجماعة وليس بإيجاد مخارج ملموسة من الوضع الذي أنتج هذه السردية.

هذا ما تقوله لنا طريقة التعاطي مع الفيديوات التي يتم تسريبها حول ما فعله داعش بخصومه الشيعة، وحول ما فعله أفراد وجماعات في الميليشيا المرتبطة بـ “الحشد الشعبي” بخصومهم السنة، وحول ما فعله نظام الأسد بخصومه وما فعله خصومه بأتباع النظام… نحن أمام دينامية نفسية معتادة في الحرب الأهلية لا تستهدف الدعاية فقط، بل حفظ استمرارية الجماعة وقدرتها على مواصلة الحرب.

في الغالب، تخفي سرديتا الجماعتين المتصارعتين حقائق معقدة كثيرة عن طبيعة الصراعات الاهلية، فهي نادراً ما تجري فعلاً بسبب ما يدّعيه طرفاها، والكثير ممن ينضوون تحت لوائها لهم دوافعهم الخاصة التي لا تندرج في إطار ما تدّعيه سردية الجماعة التي يقاتلون الى جانبها. هذا ما تخبرنا به الباحثة المقتدرة في “معهد ماساشوتس للتكنولوجيا” (MIT) كريستيا فوتيني في كتابها عن “تشكل التحالفات في الحرب الأهلية”، حيث تتحدى الفكرة السائدة بأن تلك التحالفات هي ببساطة نتاج لحالة استقطاب اثني أو طائفي.

وعبر تحليلها لـ53 حالة تستنتج أن التوزيع النسبي للقوة على الأرض يلعب دوراً كبيراً في توجيه اصطفاف الفئات السكانية والجماعات المحاربة، مؤكدة على الرؤية المصلحية والبراغماتية في اتخاذ الفرقاء لمواقفهم. بهذا المعنى، فإن سرديتي المظلومية التي يتبناها طرفا الصراع الأهلي في العراق، لا تقدمان أبداً إجابة كافية عما يحصل فعلاً في هذا الصراع.

الانتماء والانشقاق

ليس جديداً القول إن الإنسان منحاز في الغالب الى الجماعة التي ينتمي اليها ويرى الأمور من منظورها، لأنه يخضع لعملية تنشئة تشكِّل مداركه وفهمه للعالم من خلال منظومة الأفكار والرموز والطقوس التي تغرسها فيه الجماعة. وفي الغالب، تهيمن قيم تؤكد أهمية الإخلاص للجماعة وعدم “خيانتها” وتجنب “العمالة” لخصومها.

ورغم أن الكثير من أفراد الطبقات المتعلمة يبدون تعالياً على هذه القيم، إلا أن قليلاً منهم يستطيع فعلاً المغامرة بصورته وعلاقاته الاجتماعية عبر التغريد خارج السرب الجمعي، وهذا القليل هو الى حد كبير ظاهرة ترتبط بفكرة المثقف الحديث الذي ينطلق من تبجيل فكرة الانشقاق على حساب فكرة الانتماء. لكن للانشقاق أخلاقياته أيضاً التي تجعله غير مطابق للخيانة، فالخيانة هي التخلي عن الجماعة لخدمة جماعة أخرى أما الانشقاق فهو نقد الجماعة من دون الانضواء في جماعة بديلة.

يبدو خيار الانشقاق في المجتمع الشرقي المبني على قيم أبوية وعلى الأخلاقيات الجمعية، وعلى طمر الفارق بين العام والشخصي.. صعب ومكلف. لا يتعلق الأمر فقط بقوة النزعة الجمعوية، بل وأيضاً بضيق مساحة الحياد التي تمنع الانشقاق من أن يبدو وكأنه خيانة. ان فكرة المجتمع نفسها بمعناها الحديث غير متحققة بشكل كامل في بلادنا، ونحن في الغالب نستخدم التعبير بحكم التعود لا بحكم التحقق من دقته.

فالمجتمع (Society) هو ظاهرة حديثة يصنعها تفكك وتراجع تأثير العلاقات القرابية ومؤسساتها لمصلحة العلاقات الطوعية ومؤسساتها، بما يقوي قدرة الفرد على الاختيار. لكن في حالة “الجماعة” (Community)، فإن الفرد مأسور بجملة علاقات لا تمنحه تلك الحرية. في الغالب، يصعب على “المنشق” في بلادنا أن يهرب من أسار الجماعة ليحتمي بفضاء المجتمع، لأن الأخير يتلاشى مع صعود الجماعات.

الجماعة ومجتمع الحقوق

يؤكد أنتوني سميث (عالِم الاتنوغرافيا البريطاني) أهمية الرموز والسرديات في صناعة الجماعة، ويشير إلى عناصر رئيسية في تشكيل تلك السرديات، أحدها فكرة المظلومية. وهو يدرك أن هناك فرقاً بين المجتمع السياسي كمفهوم حديث يقوم على الروابط القانونية، وبين الجماعة الاثنية، لكن في ظروف تراجع المجتمع، كما هو حاصل في منطقتنا، يترك الفراغ لتملأه سرديات الجماعات وفكرها وخطابها. بهذا المعنى، فإن تنافس المظلوميات هو تعبير عن إخفاق عميق في صناعة خطاب إيجابي مؤسَّس على قيم المجتمع السياسي الحديث.

ثم ان هناك فجوة واضحة بين الولاءات الفعلية للمنضوين في أطر الجماعات وبين الخطاب السياسي في بلادنا، وهي فجوة كرستها حالة “الازدواجية” السائدة بسبب الخضوع لأنساق قيمية متعارضة، في الوقت ذاته، وتحديداً بسبب التوتر بين الانتماء الفرعي وبين الانتماء الوطني، وهو توتر يميل اليوم الى تقوية الانتماء الأول بوصفه تعبيراً عن حالة “الخوف الجمعي” من حالة الفوضى وعدم اليقين. فخطاب المظلومية يعبر عن صعود هذا الانتماء، وعن مزيد من الإخفاق لفكرة الدولة المدنية.

ويخطئ من يتصوّر أنها اليوم حالة عربية وحسب. فتعثر دولة الرفاه في أوروبا أسهم في ظاهرة نكوصية تتمثل بالعودة للاثنو- قومية التي تمثلها الأحزاب اليمينية المتشددة والفاشية التي نراها في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهنغاريا وهولندا. لكننا في المشرق نواجه الشكل الأكثر تطرفاً لهذا الصراع، لأن الدولة الحديثة أخفقت في أن تجذر نفسها اجتماعياً ولم تستطع أن تبني ما يكفي من الروادع الثقافية ضد نزعات العودة الى الجماعة. وليس غريباً أن تكون بنى هذه الدولة قد اختُرقت عميقاً من قبل الولاءات القرابية والعصب الطائفية والقبلية.

هنالك صراع لم ينته بعد بين فكرة الدولة المؤسسة على “مجتمع الحقوق” وتلك المؤسسة على “روابط الجماعة الأولية”، هو جزء من صراع عالمي أنتجته العولمة، لكنه في بلادنا يأخذ اليوم شكل أسئلة وجودية ملحة: هل ننساق وراء سباق المظلوميات أم نبحث عن إطار حقوقي لمعالجة “الظلم”؟ هل مشكلتنا هي في وجود الظلم، أم في مَن يرتكبه؟ إنه جدل رئيسي في عالم القرن الحادي والعشرين، جدل نستطيع أن نؤثر فيه عبر النموذج الذي نختاره ونحن ندير صراعاتنا ونتعامل مع مخلفات فشل الدولة التي كانت في معظم تاريخها، ولا زالت، دولة الجماعة، لا دولة المجتمع.

د.حارث حسن

الخليج الجديد