بينما تحتفل إسرائيل بحلم الاستقلال، يرى الكثيرون كابوساً قيد التشكل

بينما تحتفل إسرائيل بحلم الاستقلال، يرى الكثيرون كابوساً قيد التشكل

عندما أعلنت إسرائيل استقلالها في العام 1948، سارع الرئيس هاري ترومان إلى الاعتراف بها. وقد استغرقه الأمر 11 دقيقة فقط ليفعل ذلك. وكان الإسرائيليون، الذين على وشك الذهاب إلى الحرب للدفاع عن دولتهم الوليدة آنذاك، يشعرون بالنشوة.
الآن بعد مرور سبعين عاماً من ذلك اليوم -والزمن نفسه تقريباً منذ أعلنت إسرائيل مدينة القدس المقدسة “عاصمة أبدية” لها، تقوم الولايات المتحدة بافتتاح سفارتها رسمياً على قمة تل يقع على بعد ميلين إلى الجنوب من الحائط الغربي في المدينة.
ويأتي نقل السفارة من تل أبيب واعتراف الرئيس ترامب بالقدس كعاصمة إسرائيل -في عكس لوجهة عقود من السياسة الخارجية الأميركية- في لحظة تحتشد بكل منت مشاعر الفخر والخطر، حتى ليبدو أن الإسرائيليين لا يعرفون بماذا يشعرون بالتحديد.
يجد الإسرائيليون أن من الصعب الابتهاج والتباهي عندما يجدون أنفسهم وهم يفعلون الأشياء نفسها التي كانوا يفعلونها في العام 1948: الاستماع إلى صفارات الإنذار من الدفاع المدني، وتجهيز الملاجئ من القذائف لاستقبال المواطنين، واستدعاء تعزيزات لمواجهة التهديدات التي تأتي من الشمال والجنوب والشرق.
الآن، خرج ظل احتمالات الحرب المتصاعدة مع إيران إلى العلن، والتي تضع إسرائيل في مواجهة أقوى خصم لها في المنطقة. ودفعت احتجاجات جماهيرية حاشدة في غزة آلاف الفلسطينيين، بتشجيع من حماس، إلى محاولة عبور الحدود إلى داخل إسرائيل التي قتل قناصوها العشرات وأصابوا الآلاف منهم. وأدى هذا السفك للدماء إلى إعادة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى الأجندة الدولية بعد سنوات عومل فيها على أنه شأن ثانوي.
الآن، في القدس الشرقية وباقي الضفة الغربية، تواجه شرطة الحدود الإسرائيلية والجنود الإسرائيليون مظاهر التعبير عن الإحباط المكبوت، ونفاد الصبر والغضب لدى الفلسطينيين -من الولايات المتحدة التي يبدو أنها تخلت عن أي تظاهر بالتوازن؛ ومن إسرائيل لاحتلالها المستمر؛ ومن السلطة الفلسطينية بسبب ضعفها وفسادها؛ ومن عملية السلام نفسها، لأنها ألهمت آمالاً ثبتت مراراً وتكراراً أنها غير صحيحة.
يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف، مؤلف سيرة حياة جديدة لرئيس الوزراء المؤسس لإسرائيل، بعنوان “دافيد بن غوريون: دولة بأي كلفة”: “إنك إذا نظرت إليها (إسرائيل) من الخارج، فإنك ترى واحدة من قصص النجاح الأكثر إثارة في القرن العشرين”.
مع إسرائيل قوية جداً وقد أصبح عدد سكانها اليهود أكبر من أي وقت مضى، كما يقول السيد سيغيف، “فإن هذا يشكل حقاً تحقيقاً لحلم بن غوريون. لكن المستقبل، في الوقت نفسه، يبدو قاتماً للغاية، وما تزال بعض المشاكل التي تركها لنا من دون حل”.
من الصعب على الإسرائيليين اليهود أن يشعروا بالراحة التامة بينما يظلون مغتربين عن بعضهم بعضا، وعن ما يقارب المليونين من المواطنين العرب في الداخل، وعن الملايين من الناس في الجوار، وحيث يبدو تحقيق تسوية دائماً مع الفلسطينيين بعيد المنال -كما كان حاله دائماً على مدى أكثر من جيل.
ومع ذلك، قد يشعر العديد من الإسرائيليين المحاصرين بأن إسرائيل لم تكن أقوى مما هي الآن في أي وقت مضى، بأي معنى تريدونه للكلمة.
يقوم جيشها بشكل روتيني باستئصال القوات المعادية بالطائرات المقاتلة، والبطاريات المضادة للصواريخ، وأحدث أدوات تدمير الأنفاق. ويسحب جواسيسها مخزوناً هائلاً من الأسرار من تحت أنوف أعدائها. وتبيع شركاتها الجديدة عالية التقنية بشكل روتيني ما تنتجه في مقابل المليارات من الدولارات، وقد أصبح اقتصادها موضع حسد في الشرق الأوسط، وتزدهر برامجها التلفزيونية على “نيتفليكس”. وقبل بضعة أيام فقط، تغلبت المشاركة التي تمثلها في مسابقة “يوروفيجن سونغ” -وهي راقصة تدعى نيتا بازيلزاي– على محاولة للمقاطعة بذلها منتقدو إسرائيل، لتفوز في المسابقة وتحظى بالإشادة الشعبية.
كما أن علاقاتها التي تشهد مزيداً من الدفء مع عدد من الدول العربية تبعث على الأمل في أن تبدأ إسرائيل بتوسيع دائرة أصدقائها الصغيرة في المنطقة.
كان انتقال البعثة الأميركية يوم الاثنين إلى موقع قنصلية سابقة محصنة على خط التماس بين القدس الشرقية والغربية، من معقلها على شاطئ البحر في تل أبيب، عملاً مشحوناً بالرموز بالعديد من الطرق.
لكن نقل هذه القاعدة الأمامية الأميركية من تل أبيب الليبرالية، والنقطة الزرقاء الوحيدة على الخريطة السياسية الإسرائيلية الحمراء، إلى عاصمة استبدلت إلى حد كبير سكانها الإسرائيليين العلمانيين بآخرين أكثر تديناً، إنما يعكس بدقة ما يحدث لدعم إسرائيل في الولايات المتحدة.
كان بن غوريون رئيساً للوزراء لمدة 13 عاماً، وقيل كل شيء عن ذلك مسبقاً. وسوف يتفوق بنيامين نتنياهو على هذا الرقم القياسي في منتصف العام 2019 إذا ما بقي في المنصب. لكن هذا أبعد ما يكون عن التأكيد: فهو يواجه اتهاماً محتملاً بالتورط في شبكة من فضائح الفساد المحلية، وقد تتسبب التهم الجنائية في انهيار ائتلافه الحاكم.
من جهة أخرى، ذهب الرئيس ترامب ربما أبعد من أي من أسلافه في دعم إسرائيل وقائدها اليميني، ولم يقدم أي رئيس أميركي من الهدايا لزعيم إسرائيلي أكثر مما فعل.
من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، إلى حجب الأموال عن وكالة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين -وهي الوكالة التي يرغب نتنياهو في التخلص منها كلية- إلى الانسحاب من الاتفاقية النووية الإيرانية في الأسبوع الماضي، أمطر الرئيس ترامب نتنياهو بالجوائز السياسية.
وكانت إيفانكا ترامب، ابنة الرئيس، وجاريد كوشنير، صهره ومستشاره الرفيع لشؤون الشرق الأوسط، ووزير الخزانة ستيفن منوشين، من بين الممثلين رفيعي المستوى الذين أرسلتهم الإدارة الأميركية لحضور حفل افتتاح السفارة يوم الاثنين. وقالت إسرائيل إن جميع الدول التسع والثمانين التي لديها بعثات دبلوماسية في البلاد دعيت لحضور الحدث، وإن 33 منها أكدت الحضور.
بالنسبة للفلسطينيين، كان الكشف الرسمي عن السفارة الجديدة مجرد المظهر الأحدث والأكثر مادية فقط في كوكبة من الاستفزازات التي تقوم بها واشنطن والحكومة الإسرائيلية.
تقول هند خوري، الدبلوماسية السابقة في منظمة التحرير الفلسطينية، والتي ترأس الآن منظمة غير ربحية للتنمية المستدامة مقرها في بيت لحم: “إنها القوة هي التي تصنع الحق”. وأضافت أنه ليس من المتوقع من الفلسطينيين الآن أن ينسوا أمر القدس فقط، وإنما أن ينسوا أيضاً فقدان منازلهم في العام 1948 ثم مرة أخرى في قتال العام 1967.
وقالت: “اقبلوا بوجود إسرائيل وهيمنتها. اقبلوا بهدم المنازل والطرد ونزع الملكية”.
وواصلت: “اقبلوا باقتلاع أشجار زيتونكم، وعنف المستوطنين. اقبلوا بالمستوطنات. اقبلوا بسيطرة إسرائيل على كل وادي نهر الأردن، واستخدامه لمنافعها الاقتصادية. اقبلوا بحقيقة أن إسرائيل لم تلتزم بأي من التزاماتها. اقبلوا حصار غزة. اقبلوا حقيقة أن القدس الشرقية لم تعد تنتمي إلينا نحن الفلسطينيين بعد الآن. اقبلوا بالتشريع العنصري الذي تقوم إسرائيل بتمريره؛ لكي نكون سجناء في أرضنا نحن: لا أستطيع أن أحصل على تأشيرة لأننا ‘جميعاً إرهابيون’. اقبلوا باستخدام ‘معاداة السامية’ لمحاربة أي شخص يريد أن يدعم الحقوق الفلسطينية”.
وقالت: “هناك أشياء علينا أن نقبلها، وإلا سوف نحصل على المزيد من هذا الجحيم فحسب. ربما أتحدث بطريقة أقرب إلى حديث أم أو جدة، لكن من الخطيئة أن نورث الجيل التالي هذا الإرث”.
وبالنسبة لليهود الإسرائيليين، ثمة مجموعة مختلفة من المظالم التي تتم تهدئتها أو تحريضها بافتتاح السفارة يوم الاثنين وكل ما يثيره.
ينظر المؤلف الأميركي-الإسرائيلي، يوسي هاليفي، الذي نُشر كتابه الجديد “رسائل إلى جاري الفلسطيني” يوم الثلاثاء، إلى خطوة نقل السفارة على أنها “لحظة نادرة للتعويض” عما وصفه بأنه “حملة لإنكار أي صلة يهودية بالقدس” -والتي تم التعبير عنها في جولات التصويت في “اليونسكو”، أو في خطابات محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، عندما يستشهد بالارتباط المسيحي والإسلامي بالقدس، لكنه يحذف عن قصد أي صلة يهودية بها.
ويقول هاليفي: “هناك هذا الاستياء العميق بين الإسرائيليين من الحرب التي تخاض ضد تاريخنا وجذورنا في هذه المدينة”.
ومع ذلك، يشير هاليفي إلى أن كتابه “عن المصالحة مع جيراني الفلسطينيين يخرج في واحدة من أسوأ اللحظات في تاريخ علاقتنا المعذبة. وقال هاليفي إنه يتمنى أن تكون خطوة السفارة مصحوبة بنوع من “تأكيد إسرائيل والولايات المتحدة على الوجود الفلسطيني في المدينة التي نتقاسمها”.
ويقول: “لا أعتقد أننا يجب أن نكون بصدد وضع بصمتنا. إننا بعيدون عن ذلك. ولكن يجب أن يكون هناك توضيح صريح وواضح لحقيقة إدراكنا بأننا لسنا وحدنا في القدس. سوف تكون هذه لحظة ملائمة لإصدار بيان إسرائيلي سخيّ”.
فعلت هجمات نتنياهو على الصفقة الإيرانية خلال فترة إدارة أوباما الكثير لإثارة سخط الديمقراطيين اليهود على الزعيم الإسرائيلي. وأدى تخليه عن اتفاق تم التوصل إليه بشق الأنفس لمنح اليهود الإصلاحيين واليهود المحافظين حصة أكبر في الحياة اليهودية في إسرائيل، والموافقة على تدبير يمنح الحاخامية الأرثوذكسية اليهودية احتكار إقرار اعتناق اليهودية في إسرائيل، إلى دق إسفين بين اليهود الليبراليين الأميركيين وبين القادة الدينيين الإسرائيليين.
وثمة سياسات الأخرى، مثل الجهود المبذولة لترحيل المهاجرين الأفارقة، والهجوم التشريعي المستمر الذي يشنه حلفاء السيد نتنياهو السياسيون على المؤسسات الديمقراطية مثل المحكمة العليا في إسرائيل، والتي أضافت بدورها إلى مشاعر عدم ارتياح الكثير من الأميركيين الليبراليين لما تفعله إسرائيل.
وهكذا، بينما تقدم إدارة ترامب تعبيراً مادياً محسوساً عن عاطفتها تجاه إسرائيل، يبدو أن ثمة صدعاً يزداد اتساعاً بين مركزين رئيسيين للحياة اليهودية في العالم اليوم.
بطبيعة الحال، يمكن أن تتلاشى التهديدات المباشرة للأمن الإسرائيلي. ويمكن أن يلتئم الصدع بين اليهود الأميركيين والإسرائيليين مع قدوم إدارة جديدة في أي من المكانين، إن لم يكن قبل ذلك. وحتى الخطر الذي يشكله نقل السفارة يمكن أن يثبت أنه لم يحبط الاحتفال، لدى النظر إليه في وقت لاحق، أكثر مما يفعل مجرد تحطم زجاجة في حفل زفاف يهودي.
قال وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، إن عملية السلام في الشرق الأوسط “ليست ميتة بالتأكيد”، على الرغم من نقل السفارة، وقال لبرنامج “فوكس نيوز صنداي” إن الولايات المتحدة ما تزال تأمل في أن تتمكن من “التوصل إلى نهاية ناجحة” لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وقال السيد سيغيف، كاتب السيرة الذاتية، إنه تعلم في بحثه أن بن غوريون لم يهتم كثيراً بالقدس، وإنه أحجم عن محاولة الاستيلاء على المدينة في العام 1948، فيما عاد جزئياً إلى علمه بأنه سيكون من الصعب حماية “المدينة القديمة” فيها من المتطرفين.
بهذا المعنى، يبدو أن القليل قد تغير، كما يقول السيد سيغيف الذي أضاف: “هذا هو ما هي عليه القدس. هذا هو السبب في أنها كانت مشكلة خلال السنوات الثلاثة آلاف الماضية. وأنها قد تكون مشكلة في السنوات الثلاثة آلاف المقبلة أيضاً”.

ديفيد م. هالبفينغر

الغد