أزمة توظيف في الجيش البريطاني

أزمة توظيف في الجيش البريطاني

يسعى الجيش البريطاني، الذي تدحرج إلى المرتبة السادسة عالميا، لاستعادة قوته بعد موازنات تقشفية اعتمدتها الحكومات منذ 2010، وتمّ رفعها مؤخرا، ما أثر سلبا على أداء وجاهزية وأعداد المجندين. ولا يعتبر العامل المادي وحده سببا مباشرا في تراجع التوظيف داخل مختلف وحدات الجيش التي تشكو من نقائص بشرية ولوجستية بل يتعدى ذلك الأمر إلى عوامل متداخلة منها الاجتماعية والنفسية، وحتى المهام القتالية في الخارج، التي أثرت على القدرات العملياتية للجنود وأضحت سببا في نفور العديد من الخدمة العسكرية.

لندن – يحاول الجيش البريطاني تخطي أزمة توظيف كبرى يمر بها، وقد ساهمت الموازنات التقشفية في استفحالها، عبر خصخصة القطاع الأكثر حساسية في البلاد وذلك باللجوء إلى الشركات الخاصة والتكنولوجيا الحديثة لمواجهة النقص في عدد الجنود.

ولدى القوات المسلحة البريطانية عجز يقدر بـ8.200 من الجنود والبحارة وجنود القوات الجوية، وهو الأسوأ منذ عام 2010. وعلى الرغم من التدابير الجديدة المعتمدة في التوظيف، لم يستطع الجيش البريطاني تحقيق النتائج المرجوة، حيث كانت البيروقراطية والتعقيدات القانونية إضافة إلى طول فترة الانتظار أهم الأسباب، كما تأخر نظام التوظيف عبر الإنترنت في حل هذه المشكلة.

ويشير النائب مارك فرنسوا، من حزب المحافظين، في تقرير له كتبه إلى رئيسة الوزراء في يوليو 2017، إلى أن الجيش يواجه مشكلة عصيبة في ما يتعلق بالتوظيف؛ ففي تقدّم معدلات الأعمار بين السكان، وفي ظل مدّ الطلاب لفترة تعليمهم وزيادة معدلات السمنة، والانسحاب من أفغانستان، وانخفاض البصمة العسكرية في المجتمع، والتوظيف الذي يوفر الكثير من الفرص الأخرى، فقد أثّر كل هذا على انخفاض معدلات التوظيف في الجيش.

ينقل المعهد الملكي البريطاني للدراسات الدفاعية (روسي) عن تحقيق أعده مكتب التدقيق الوطني حول استعانة الجيش بمصادر توظيف خارجية. ففي محاولة للضغط على التكاليف والإسراع في عملية الانتداب التي تبدو معقدة، لجأت الحكومة البريطانية إلى القطاع الخاص مستعينة بشركة ” كابيتا”، حيث أوكلت إليها مهام اختيار المجندين الجدد ودراسة الترشيحات، فيما أغلق الجيش أقل من نصف مكاتب التوظيف الخاصة به، وقام بتفويض العملية لها. وتمكنت هذه الشركة منذ عام 2012، من توظيف ما بين 55 و79 بالمئة من تعيينات الجيش السنوية.

لكن، ينظر البعض من البريطانيين بقلق إلى خطوة الاستعانة بمصادر خارجية للتوظيف في الجيش، والتي تهدف الحكومة من خلالها إلى التقليص من تكاليف الانتداب، بأنها قضية مسيسة للغاية، حيث تعتبر المعارضة البرلمانية ذلك فرصة لإثبات أن أجندة الحكومة التقشفية قد قوضت الأمن القومي.

ويوضح جاك واتلينغ، الباحث في معهد روسي، أن عملية التوظيف بالجيش تستغرق ما بين 200 و400 يوم، في ظل انتظار نصف مقدمي الطلبات بمعدل 321 يوما للانضمام، وبالتالي، فمن غير المستغرب أن 47 بالمئة من مقدمي الطلبات ينسحبون طواعية من العملية.

ويتم إلقاء اللوم على ما يحدث على شيئين، حيث يقول أولئك الذين تفاعلوا مع نظام التوظيف الإلكتروني بشركة “كابيتا” إنه محبط للغاية، في ظل تنفيذ الكثير من عمليات النظام الإلكتروني يدويا، دون إبداء أي معلومات عن الإطار الزمني أو تقدم هذه العملية، غير أن مدة عملية التوظيف، كما يذكر تقرير مكتب مراجعة الحسابات القومية، هي أيضا نتاج فشل لوزارة الدفاع في تبسيط إجراءاتها؛ لا سيما وأن الوزارة ضمنت أكثر من 10 آلاف بند في تعاقدها مع شركة “كابيتا”.

8200 وظيفة شاغرة في الجيش البريطاني، وهو الرقم الأسوأ منذ عام 2010

وهناك أيضا قضية أخرى وهي تطور نظام التوظيف عبر الإنترنت، والذي تأخر تنفيذه 52 شهرا، حيث تأكد أن الناتج النهائي الذي تقدمه شركة “كابيتا” أقل من كل التوقعات، لكن طول فترة التأخير تفاقمت نتيجة فشل وزارة الدفاع في الوفاء بالتزاماتها التعاقدية في توفير البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات في برنامج “كابيتا”. وخلص مراقبون إلى أن النقص في التوظيف جاء كنتيجة لخبرة “كابيتا” غير الكافية، وكذلك عدم المرونة الكافية التي يجب أن تتمتع بها وزارة الدفاع.

وتلعب عناصر أخرى دورا هاما في تعقيد هذه المشكلة، فعلى سبيل المثال يشكل التوظيف في مجال الاقتصادي أحد أبرز هذه العوامل، حيث يشار غالبا إلى أن نسبة العاملين المتزايدة يعملون بدوام جزئي، أو يعملون بعقود مؤقتة، أو يعملون لحسابهم الخاص، ما يعقّد عمليات التوظيف.

ولإعادة ضبط أعداد المتقدمين، تم وضع نظام لتكنولوجيا المعلومات قيد التشغيل، حيث إن التقليل من النفقات كان أقل من المتوقع، إلا أنه تم تحقيقه؛ ويرى مكتب المراجعة الوطني أن وزارة الدفاع ستوفر 221 مليون جنيه إسترليني بحلول عام 2022، بدلا من مبلغ 267 مليون جنيه إسترليني.

ويعاني الجيش البريطاني أكبر أزمة نقص قوى بشرية في العقد الأخير، حسبما أفادت به تقارير رقابية حديثة رصدت فجوات كبيرة في عدة قطاعات. وفي يناير الماضي، قال مكتب التدقيق الوطني في بريطانيا إن حجم العمالة بالدوام الكامل في الجيش أقل بنسبة 5.7 بالمئة من المطلوب.

بريطانيا
السماح للنساء بالتقدم إلى جميع قطاعات الجيش البريطاني بما في ذلك جنود المشاة لأول مرة في تاريخ البلاد
وانتقد المكتب اعتماد وزارة الدفاع على المجندين صغار السن في الرتب الدنيا، لتطويرهم وتدريبهم بمرور الوقت، وقال إن هذا لم يكن كافيا لحل المشكلة. وقال مدير مكتب التدقيق الوطني أمياس مورسي إن “الإدارة تحتاج إلى تغيير نهجها بشكل جذري من أجل تطوير الموظفين المهرة، ومعالجة أوجه النقص القديمة التي لا تزال قائمة”.

في المقابل، فإن نسبة المستقيلين طوعا من القوات المسلحة ارتفعت من 3.8 بالمئة في مارس 2010 إلى 5.6 بالمئة في ديسمبر 2017، وهو ما فاقم الأزمة. وقالت ميغ هيلير، مديرة لجنة الحسابات العامة في بريطانيا، “في أوقات الريبة هذه، فإن امتلاك بريطانيا قوات مسلحة أقوى وأكثر دراية بمواجهة التهديدات على الأمن القومي يبدو أكثر أهمية”. وتابعت “دون طرق خلاقة لجذب الكوادر، تخاطر بريطانيا باستمرار الفجوات الكبيرة في القدرات والإفراط في استنفاذ العاملين الذين يعملون فعليا بجد”.

وذكرت صحيفة التلغراف أن تعداد أفراد الجيش البريطاني يتقلص على الرغم من الدعاية المكثفة لاستقطاب مجندين جدد، مشيرة إلى أن عدد أفراد القوات البرية في الجيش البريطاني، وصل إلى 79590 جنديا، وهو في انخفاض مستمر.

وكانت وزارة الدفاع البريطانية قد اتخذت قرارا، عام 2010، بالحد من ميزانية الدفاع وتقليص عدد القوات البرية من 102000 إلى 82000 شخص، وفي الوقت ذاته زيادة عدد جنود الاحتياط من 19000 إلى 30000، إلا أن الجيش يعاني الآن من عدم القدرة على تعويض النقص، مع تواصل انخفاض تعداد أفراده.

رفعت الحكومة البريطانية مؤخرا القيود المفروضة على الطلبات المقدمة من دول الكومنولث للانضمام إلى الجيش البريطاني، ما يوسع إلى حد كبير من دائرة المتقدمين.

وأعلنت وزارة الدفاع عن إلغاء شرط أن يكون الراغبون في الانضمام إلى الجيش من دول الكومنولث أو ما يعرف بـ”رابطة الشعوب البريطانية” قد عاشوا في بريطانيا لمدة خمس سنوات.

وأشارت صحيفة الغارديان إلى أن القادة العسكريين يأملون في الوقت الراهن، تجنيد 1350 فردا إضافيين من دول أجنبية سنويا، في القوات البحرية والجيش البريطاني والقوات الجوية.

وبدأت البحرية الملكية وقوات سلاح الجو الملكي إجراءات التجنيد فورا، مع فتح باب تقديم طلبات الجيش البريطاني في أوائل عام 2019. ولفتت الغارديان إلى أن الأشخاص من دول خارج الكومنولث سيبقون بحاجة إلى الجنسية البريطانية حتى يتم قبولهم، والاستثناء الوحيد هو “الجوركا” وهي (الفرق الخاصة التي تخدم التاج البريطاني لتنفيذ المهام فائقة الصعوبة) من نيبال، والمتقدمين من جمهورية أيرلندا. ويقول مارك فرنسوا، عضو لجنة الدفاع، لصحيفة ديلي تلغراف”، “تاريخيا، كانت القوات الأجنبية وقوات دول الكومنولث ذات أهمية، وكانت مصادر لتجنيد الجيش البريطاني، وأنا أرحب بالزيادة في حد التوظيف”.

وسمحت الحكومة لـ200 من مواطني الكومنولث الذين لم يعيشوا في بريطانيا لمدة خمس سنوات بالتقدم للانضمام إلى الجيش البريطاني، وهو قانون جرى تقديمه في عام 2016، ولكن الآن تم رفع الحد الأقصى، كما تسمح القواعد الخاصة بالفعل لمواطني أيرلندا وجوركاس من النيبال بالانضمام إلى القوات المسلحة.

بريطانيا

وإلى جانب المزايا التكتيكية لتوسيع نطاق وجهات النظر في الوحدات، قد تساعد زيادة نسبة الأفراد من ذوي البشرة السوداء والآسيويين والشرق أوسطيين الجيش في الوصول إلى مجتمعات أوسع في المملكة المتحدة، والتي توفر حاليا عددا أقل من المجندين للقوات المسلحة.

وتعاني بريطانيا من قلة انخراط شبابها في القوات المسلحة، حيث تناقصت أعداد عناصرها، في وقت تشارك فيه وحدات من الجيش البريطاني في عمليات عديدة خارج الحدود. وأشارت مجلة ناشيونال أنترست إلى أن المهام التي ينفذها الجيش البريطاني في الخارج، بما في ذلك مشاركة وحدات في القتال ضد داعش بسوريا والعراق، ومهام التدريب في أفغانستان والصومال، وتمركز وحدات في جزر الفوكلاند ومناطق أخرى من العالم تشكل ضغطا كبيرا على القوات المسلحة البريطانية مع قلة المنضمين الجدد إلى صفوفها.

وغادر حوالي 15140 فردا من القوات النظامية صفوف الجيش البريطاني، خلال 2017، فيما انضم إليه خلال تلك الفترة 13450 مجندا فقط، ما يؤكد وجود فجوة كبيرة خاصة في سلاح المشاة. وتمّ السماح للنساء بالتقدم إلى جميع قطاعات الجيش البريطاني لأول مرة، بما في ذلك وحدات المشاة الأمامية ومشاة البحرية الملكية، حيث تعني هذه القواعد الجديدة أن النساء سيكون بمقدورهن أيضا أن يخترن الانضمام إلى الوحدات المتخصصة بما في ذلك القوات الجوية الخاصة، وخدمة القوارب الخاصة.

أظهرت دراسة أن الجنود البريطانيين يعانون المزيد من حالات الاضطراب لما بعد الصدمة خصوصا أولئك الذين قاتلوا في العراق وأفغانستان. وأظهرت نتائج هذه الدراسة التي نشرتها مجلة الطب النفسي البريطانية “بريتيش جورنال اوف سايكايتري”، أن حوالي 6 بالمئة من العناصر الحاليين أو السابقين في الجيش كانوا يعانون من اضطرابات إجهادية لاحقة للصدمة خلال عامي 2014 و2016، أي أكثر بنقطتين مئويتين من الفترة الممتدة بين عامي 2004 و2006.

ولوحظ هذا الارتفاع خصوصا لدى قدماء المحاربين الذين تم نشرهم في العراق وأفغانستان، حيث بلغ معدّل اضطرابات ما بعد الصدمة المحتمل لدى المحاربين القدامى الذين خدموا في مناطق النزاع 9 بالمئة مقارنة بـ5 بالمئة للمحاربين القدامى الذين لم يذهبوا إلى هذه المناطق. وبين الجنود الحاليين، يبلغ معدّل احتمال الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة 5 بالمئة وهي نسبة قريبة من المعدل السائد لدى السكان عامة.

ونقل بيان لجامعة “كينغز كوليدج” عن الدكتور شارون ستيفلينك من معهد علم النفس والطب النفسي وعلم الأعصاب قوله “للمرة الأولى، لاحظنا أن خطر الإصابة باضطراب إجهادي لاحق للصدمة لدى المحاربين القدامى الذين وُزّعوا أثناء نزاعات، كان أعلى بكثير من الخطر الذي يتعرض له الجنود الذين لا يزالون في الخدمة”.

وبحسب الباحثين، أحد أسباب انتشار الاضطرابات الإجهادية اللاحقة للصدمة لدى المحاربين القدامى بشكل أكبر من انتشارها لدى الجنود الحاليين هو أن الجنود الذين يعانون من إضطرابات نفسية أكثر احتمالا أن يتركوا الجيش. وتستند هذه الخلاصات إلى المرحلة الثالثة من دراسة مهمة أجراها مركز الأبحاث، بدأت عام 2003 وموّلتها وزارة الدفاع. ومن أصل 8093 مشاركا شملتهم المرحلة الثالثة من الدراسة، 62 بالمئة تم توزيعهم في العراق أو أفغانستان.

بالإضافة إلى العجز في الميزانية ونقص الدعم المالي للجيش البريطاني، ووفقا لبيانات مستقاة من سجلات وزارة الدفاع البريطانية، فإن واحدا من كل خمسة جنود بريطانيين أصبح غير قادر على الخدمة العسكرية خاصة في جبهات القتال الأمامية وذلك إما لتعرضه لإصابة مباشرة وإما لانهيار معنوياته ومعاناته النفسية.

وتكبدت القوات البريطانية خسائر فادحة في الحرب على أفغانستان حيث وصلت معنويات الجنود البريطانيين إلى الحضيض إثر تزايد أعداد القتلى والمصابين بين صفوفهم. تعلق مجلة تايم على أزمة الجيش البريطاني مشيرة إلى أن القدرات الدفاعية للقوات المسلحة البريطانية باتت في محل شك في ظل الأزمة التي تعيشها وأن دور المملكة المتحدة على المستوى الدولي بات محل تساؤل.

العرب