ندعو لطرابلس إن حوصرت إدلب

ندعو لطرابلس إن حوصرت إدلب

تشتد هجمات النظام السوري على إدلب، بدعم سياسي وعسكري من موسكو، وهي منطقة خفض التصعيد الرابعة والأخيرة للمعارضة السورية، التي يوشك الأسد على ابتلاعها، بعد درعا وريف دمشق وريف حمص، رغم أنها مناطق ضمنتها تركيا كمساحات «آمنة»، في إطار تفاهمات مع حلفاء تركيا في سوريا، موسكو وإيران، تحالف هدف منه الأتراك بالدرجة الأولى مواجهة التمدد الكردي في شمال سوريا، وإن على حساب تمدد النظام في مناطق المعارضة السورية، التي تعيش فصلها الأخير، على ما يبدو من سير العمليات العسكرية في إدلب.
وإزاء السياسات التركية التي توصف بأنها ممالئة لروسيا في سوريا، ارتفع صوت الانتقادات من قبل الكثير من المعارضين السوريين، حتى المقربين منهم لتركيا. ولكن هل يمكن الاستمرار بلوم الأتراك إلى ما لا نهاية، وكأنهم ملزمون بنصرة الثورة السورية، على حساب مصالحهم القومية؟ لقد باتت الحسابات والمصالح التركية واضحة ومعلنة في سوريا، تصريحا وممارسة، وهي تشير منذ سنوات إلى أن تركيا غير مهيأة لكسر الحلف الروسي الإيراني، وارتأت القبول بسياسات روسيا وإيران، والتماشي معها، مقابل حفظ حقها في مناهضة التمدد الكردي شمالا، وهو ما لم تحققه بالمناسبة بشكل حاسم حتى اليوم، لأن روسيا تريد من سلطة دمشق أن تحل مكان القوى الكردية شمالا، وليس أنقرة، وهذا كله، أفضى لانسحاب تركيا، آخر داعمي المعارضة السورية من ساحة النزاع في سوريا، وهكذا فإن تركيا تعمل وفق أولوياتها القومية، وعلى من يطلب نجدتها من المعارضين السوريين أن يعيد حساباته ويراجع منطلقاته، التي عوّلت على دول داعمة، متناقضة في ما بينها، وغير قادرة، ولا راغبة بالتضحية بالكثير من أجل الثورة السورية.
وفي ظل هذا الوضع المرتبك في سوريا، تتوجه تركيا لترمي بثقلها العسكري فجأة في طرابلس الغرب، لدعم حلفائها في حكومة السراج، الذين ما زالوا يسيطرون على العاصمة ومعقل المعارضة مصراته، التي ينتمي جزء كبير من عائلاتها النافذة لأصول تركية، في نزاع تشكل أطرافه في ليبيا معادلة الصراع الإقليمي، محور قطر وتركيا وحلفائهما من تيارات الإسلام السياسي الإخواني المعتدل، الذي يتمتع بنفوذ في تونس وطرابلس، ومحور السعودية الإمارات ومصر المتقارب مع إسرائيل في وجه إيران، والذي يتمتع بنفوذ في ليبيا من خلال حفتر، والملاحظ أن موسكو عادت لتفرض نفسها كضابط للإيقاع في ليبيا بعد سوريا، كقوة دولية مكان الولايات المتحدة، ليبيا التي كانت اخر خسائر موسكو، أمام واشنطن، التي دعمت المعارضة الليبية بغطاء جوي مكنها من إسقاط القذافي، بعد ستة أشهر من حملة قصف جوي عنيفة، قبل أن تستعيد موسكو زمام المبادرة في سوريا، وتقدم على التدخل عسكريا لدعم الأسد بعد أربع سنوات من انطلاقة الثورة السورية. ورغم أن موسكو قدمت الدعم لحفتر، الجنرال الليبي المدعوم من السيسي والإمارات، إلا أنها لا تمانع على ما يبدو بدور تركي في ليبيا، قد يقود لتسوية ما، بين حفتر وحكومة طرابلس، مع الملاحظة أن أوراق روسيا في ليبيا، ليست بتلك القوة، كما هو الحال في سوريا، التي تمتلك فيها حلفاء محليين أكثر هيمنة.

الحرب المقبلة على طرابلس، إن لم تقع تسوية ما، قد تتحول لمطحنة انتقام هائلة بين خمس دول إقليمية متنافسة

وبانتظار ردة الفعل من المحور الداعم لحفتر، فإن خطر التصعيد قد يعني تحول ليبيا لساحة صراع طاحنة بين محور تركيا والمحور المقابل، إن لم يتم التوصل لتسوية سياسية ما، بالتنسيق مع موسكو، عراب المنطقة الجديد، بعد انسحاب واشنطن، تسوية تريد تركيا فرضها، بمنح حكومة طرابلس القدرة على الصمود عسكريا، والأدوات لتحقيق هذا التوازن العسكري لصالح تركيا، هو مجموعات مسلحة من فصائل المعارضة السورية، بحسب ما رشح من الأخبار لحد الآن. وتقول مصادر مطلعة على أروقة التجهيزات التركية لإرسال قوات لطرابلس، إن مسؤول الملف السوري في المخابرات التركية المعروف بـ»أبو الفرقان»، بدأ بتجهيز كتائب من فصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا، لإرسالها نحو طرابلس، مع إقرار البرلمان التركي إرسال القوات بداية العام المقبل، وما زالت هذه الأنباء في طور التسريبات غير المؤكدة. لكن المؤكد أن الصحف التركية المقربة من السلطات، كصحيفة «يني شفق»، بدأت هي الاخرى بالكشف عن تسريبات تتعلق بالخطة التركية في ليبيا، يتعلق أحد بنودها، بالطلب من تونس، خلال الزيارة الأخيرة لاردوغان، استخدام ميناء بحري وقاعدة عسكرية، إضافة لفتح المجال الجوي للطائرات التركية، وهي مطالب تعكس القلق التركي من مشكلة عدم وجود حدود تربط ليبيا مع تركيا، تسهل من عملية الإمدادات العسكرية، بينما تتوفر للدول الداعمة لحفتر هذه الميزة من خلال مصر، التي ترتبط بحدود برية وبحرية واسعة مع شرق ليبيا، ما يعني أن الحرب المقبلة على طرابلس، إن لم تقع تسوية ما، قد تتحول لمطحنة انتقام هائلة بين خمس دول إقليمية متنافسة، تنقسم بين داعمة لحفتر وأخرى داعمة لحكومة السراج.
الوازع الأيديولوجي، حاضر أيضا لدى تركيا في «غزوتهم العثمانية» الجديدة في ليبيا، فالرئيس التركي وصف ليبيا بعد عودته من زيارته لتونس، بأنها «أمانة عثمانية»، كما تحدث عدد من الصحف التركية، عن «الميثاق الملي»، أي القومي لتركيا، الذي ربطه إبراهين قالن، الناطق باسم الرئاسة التركية، بالعملية الليبية المرتقبة قائلا إن «الأمن القومي لتركيا يبدأ من حدود الميثاق الملّي»، وتعتبر صحيفة «يني شفق» المقربة من حزب العدالة الحاكم، أن الاتفاق البحري الاخير مع ليبيا، هو بمثابة انهاء اتفاقية سيفر عام 1920، التي قسمت تركيا، قبل أن تتوحد مجددا بمعاهدة لوزان في 1923.
تركيا إذن تعمل على استعادة «أمانتها العثمانية» بأجندة تمليها النظرة القومية، التي يعلنها الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهين قالن بشكل واضح: «تركيا تسعى إلى حماية أمنها القومي، ويتحتّم عليها توسيع هذا الحزام، وهذا ليس خياراً بل حتمية، ومن هنا، اهتمامنا بليبيا وسوريا وأفغانستان والقوقاز والبلقان وإيران». أما سوريا، ومدنها الثائرة وآخرها إدلب، فما دامت بعيدة عن اهتمام أي قوة عربية فاعلة، يراها أولوية وجزءا من الأمن القومي العربي، فإنها ستبقى رهينة لنفوذ مشاريع القوميات الأخرى من طهران حتى أنقرة، طبقا لأولوياتهم ومصالحهم، وهكذا حصل مع الكثير من العواصم والمدن العربية في معارك فاصلة، كما احتلال بيروت، عندما سقطت بيد شارون 1982، لتقاعس دول العرب المشرذمة عن إنقاذها، منشغلين بالثرثرة عن امجاد الماضي، بدلا من مواجهة تهديدات الحاضر، ليقول فيهم درويش «أدعوا لأندلس إن حوصرت حل».

القدس العربي