دخل الصراع بين المتظاهرين في العراق والنظام السياسي مرحلة ثانية، بعد أن أدّت مرحلته الأولى إلى استقالة رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، وإلى ترسيخ الاعتقاد بوجوب حصول تغيير حقيقي في النظام السياسي. فشلت أيضا، في المرحلة الأولى، كل حملات القمع التي شنتها قوى الأمن العراقية الرسمية والمليشيات المدعومة من إيران في القضاء على الحركة الاحتجاجية ميدانيا، أو اغتيالها معنويا، بتشويه سمعتها ووصمها بأنها مؤامرة مدعومة من قوى خارجية، تتقدمها إسرائيل والولايات المتحدة. سقط في أعمال القمع المستمرة أكثر من خمسمائة قتيل وعشرين ألف جريح، لكن المتظاهرين ما زالوا يسيطرون على ساحة التحرير وجوارها في وسط بغداد، حيث يبدو إصرارهم راسخا على أن ثورتهم لن تنتهي إلا بحدوث تغييرٍ مقنع.
ليس هناك اتفاقٌ على شكل التغيير المنشود، حتى في أوساط المتظاهرين. كان هناك خلاف أيضا حول حجم التغيير، فقد انطلقت التظاهرات في بداية أكتوبر/ تشرين الأول، مطالبة بالقضاء على الطائفية والفساد طريقا للوصول إلى توفير الخدمات والوظائف، لكن المتظاهرين وجدوا بسرعة أن ذلك يعني عمليا إسقاط النظام السياسي، فرفعوا شعار إسقاط النظام بالصيغة الصريحة المعروفة، وأيضا بصيغ ذات خصوصية عراقية مثل “شلع قلع”. طالت التظاهرات وامتدت بعد ذلك، وانضمت إليها على المستوى الميداني قوى سياسية، أهمها تيار مقتدى الصدر الذي يقضي معظم وقته حاليا في إيران، ولكنه يعبر عن مواقف مساندة للتظاهرات، تبدو لدى
“دخل الشيوعيون، حلفاء للصدر، إلى التظاهرات، بعد أن كان موقف حزبهم غير مهتم، بل وغير مؤيد للتظاهرات”من يؤيده مبدئية إيجابية، وعند ناقديه محاولةً لاختراق الحركة الاحتجاجية والسيطرة على مسارها. ولكن وجود أتباع الصدر وفّر قوة ميدانية للمتظاهرين، تصدّت أحيانا للهجمات التي قامت بها المليشيات الأكثر ارتباطا بإيران. كذلك دخل الشيوعيون، وهم حلفاء للصدر، إلى التظاهرات، بعد أن كان الموقف الأول لحزبهم وصحيفتهم “طريق الشعب” غير مهتم، بل وغير مؤيد للتظاهرات. لم يغير دخول تلك التيارات الطابع العام للحركة الاحتجاجية الثورية، لكنه كان من العوامل التي ثبتتها نحو هدف إصلاح النظام، لا إسقاطه.
تمثل الإصلاح المطلوب حتى الآن في مسارين أساسيين، يتم تداولهما سياسيا بوابة للتغيير المنشود، وهما تغيير النظام الانتخابي واختيار رئيس وزراء جديد خلفا لعبد المهدي. أصدر مجلس النواب قانون انتخابات جديدا، يقوم على مبدأ الدوائر الصغيرة والغالبية البسيطة في كل دائرة. تم الاحتفاء بالقانون، وتقديمه على أنه قانون انتخابي فردي، يضع صلة مباشرة بين الناخب والنائب، فيعرف أحدهما الآخر. وعلى الرغم من أن هذا النظام الانتخابي معروفٌ بأنه يشجّع الأحزاب الكبيرة، ويشتت أصوات الأحزاب الصغيرة، فإن هناك قناعة سائدة في العراق بأن ما حصل هو تغيير إيجابي، سيقود إلى حال سياسي أفضل. كذلك تم تغيير مفوضية الانتخابات التي لطالما اتّهمت بالتلاعب بالنتائج، وتم تعيين لجنة جديدة من قضاةٍ اختيروا بالقرعة، للإشراف على عمل المفوضية والانتخابات المقبلة، ولكن موعد الانتخابات لم يحدد بعد.
وفي مسألة اختيار رئيس الوزراء، فشلت حتى الآن كل محاولات الأحزاب الشيعية القريبة من إيران في إيصال أي من مرشحيها للمنصب. وصلت الأمور إلى نقطة الأزمة، حينما رفض
“تمثلت بوابة التغيير المنشود حتى الآن في تغيير النظام الانتخابي واختيار رئيس وزراء جديد خلفاً لعبدالمهدي”رئيس الجمهورية، برهم صالح، أن يكلف محافظ البصرة أسعد العيداني. طالب صالح مجلس النواب بأن يتفاعل إيجابيا مع مطالب المحتجين، وأعلن استعداده للاستقالة من منصبه، مفضلا ذلك على تكليف مرشّح رئاسة وزراء ترفضه الجماهير. استقبل موقف صالح، وهو سياسي كردي، بحفاوة كبيرة، وصلت أحيانا إلى التمجيد، إلا أن من المهم ملاحظة أنه استند أيضا إلى موقف المرجع الديني الشيعي الاكثر تأثيرا في العراق، علي السيستاني، الذي دعم التظاهرات، ورفض تقديم مرشح مثير للجدل لمنصب رئاسة الوزراء. ومعلومٌ أن منصب رئاسة الوزراء هو من حصة الطائفة الشيعية في العراق، وفق نظام المحاصصة الطائفية الذي لم تنجح الحركة الاحتجاجية في تغييره، وإن كانت في جوهرها تمثل ثورةً ضدّه.
تكمن الإشكالية طبعا في أن النظام السياسي الذي قامت الاحتجاجات الشعبية ضده برمته هو من يقوم بعملية التغيير المفترض، فالحركة الاحتجاجية تضم عشرات وربما مئات الآلاف، وتحظى بتأييد الملايين، إلا أنها لا تمتلك قيادةً مفوّضةً بالتحرّك سياسيا، لأسبابٍ متعدّدة، أهمها أنها لم تأت من الوسط الحزبي السياسي، بل ردة فعل رافضة لفشله وفساده، إذا انطلقت من
“تم تعيين مفوضية الانتخابات باختيار لجنة من قضاةٍ بالقرعة، للإشراف على عمل المفوضية والانتخابات”الأوساط الشعبية التي وجدت نفسها مهمشّةً ومحرومةً ومغتربةً تماما عن نظامٍ سياسي يدّعي تمثيلها في عمليةٍ سياسيةٍ يحتفي بها العالم كله ويشيد بها، على الرغم من آفاتها الكبرى. ولكن غياب القيادة ما زال نقطة قوة أكثر من كونه نقطة ضعف للحركة الاحتجاجية، فبهذه الطريقة تبقى الحركة خارج النظام السياسي دافعة له، وضاغطة عليه بأن يتغير. لن يكون ذلك التغيير شاملا، وقد بات واضحا أنه لن يتحقق بسرعة. قد يتجه النظام السياسي، بقواه المسيطرة، في النهاية، نحو إصلاحٍ يقنع المتظاهرين، وينقذه فعلا من السقوط الذي يبقى احتمالا. ولكن حدود ذلك الإصلاح ستكون دائما مرهونةً بالصراع مع الحركة الاحتجاجية الثورية، وقدرتها على الصمود والاستمرار وحشد الدعم.
العربي الجديد