الباحثة شذى خليل*
تسعى تركيا، منذ نهضتها الجديدة في العقدين الأخيرين، كقوة سياسية واقتصادية صاعدة، لبناء شراكات استراتيجية مع دول كبرى وإقليمية حول العالم، وبالأخص العلاقات الاستراتيجية التي بنتها مع روسيا، القوة الكبرى التي عادت إلى المشهد الدولي بشكل فاعل، حيث “تركيا وروسيا أنجزتا مشروع السيل التركي، الذي تم افتتاحه في إسطنبول، (8 يناير 2020)، حيث شارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مدينة إسطنبول، في مراسم تدشين خط أنابيب الغاز الجديد، وتوثيق الروابط في مجال الطاقة، والعلاقات السياسية بين البلدين.
“السيل التركي” هو مشروع اقتصادي عملاق مشترك بين موسكو وأنقرة، يقوم على نقل الغاز الطبيعي الروسي إلى كل من تركيا ودول جنوب وشرق أوروبا، عبر أنابيب ناقلة تمر من البحر الأسود وعبر الأراضي التركية، ولاية كيركلاريلي في الشمال الغربي، ثمّ إلى الأراضي اليونانية، لينتهي عند حدودها، حيث تُقام مستودعات ضخمة للغاز، ومن ثم يُورّد للمستهلكين في شرق ووسط أوروبا.
ويحوي المشروع أنبوبين بقدرة 15.75 مليار متر مكعب من الغاز سنويّاً لكل منهما، ويبدأ من روسيا إلى تركيا مروراً بالبحر الأسود، إذ يغذِّي الأنبوب الأول تركيا، والثاني دول شرقي وجنوبي أوروبا.
ومن المتوقع عند اكتمال المشروع، أن يكون هناك اربعة خطوط تبلغ قدرة إمدادها الإجمالية 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، لكن حاليا المشروع سيقتصر على خطين فقط.
حيث يبلغ طول خطوط نقل الغاز إجمالياً نحو 1160 كيلومتراً، وتتوزع بالشكل التالي؛ “930 كيلومتراً تحت قاع البحر الأسود”، و”180 كيلومتراً في البر التركي”، بالإضافة لـ”50 كيلومتراً في البر الروسي”.
وبفضل “السيل التركي”، ستصل إلى تركيا مباشرة دون وجود أي بلد وسيط 15.75 مليار متر مكعب من أصل 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي .
الفوائد الروسية:
لطالما كانت أوكرانيا البلد الرئيس الذي تمر عبره الأنابيب التي تمد أوروبا بالغاز الروسي، حيث أن أكثر من 80% من واردات أوروبا الغازية من روسيا في السنوات الأولى للألفية الثانية، كانت تعبر من الأراضي الأوكرانية وذلك حتى بداية القرن الجاري.
غير أن الأزمة التي نشبت بين موسكو وكييف، وبلغت مداها بالتدخل العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم، جعلت الأولى تُفكّر في إيجاد بدائل، وبالفعل أبرمت روسيا في 2011 اتفاقاً مع ألمانيا لبناء خط أنابيب بحري “نورث ستريم” يمر عبر بحر الشمال ويسمح بتوريد 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً إلى ألمانيا مباشرة، لتقل بذلك نسبة الغاز الروسي الذي يمر عبر الأراضي الأوكرانية إلى نحو 48%.
لم تكتفِ موسكو بذلك، وحاولت إقناع بلغاريا بمشروع بناء خطوط أنابيب جديدة تمر عبر أراضيها تحت اسم “ساوث ستريم”، إلا أن الاتحاد الأوروبي الذي تُعد بلغاريا أحد أعضائه، وقف عقبة أمام إتمام هذا المشروع، إضافة الى الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة كي لا يرى النور، في سياق التخوفات الغربية من ازدياد النفوذ الروسي.
ويؤكد الخبير التركي “جنيد كازوك أوغلو” أن المشروع يفتح طريقا التفافيا لتجاوز أوكرانيا التي احتكرت توريد الغاز الروسي عبر خط الغاز الجنوبي طوال الفترة الماضية، إضافة الى ان المشروع أعطى لموسكو فرصة تاريخية لاحتكار تصدير الغاز إلى أوروبا التي ترتفع وتيرة طلبها عليه بشكل مضطرد حتى بلغت في السنوات الأخيرة 450 مليار متر مكعب سنويا.
كما يعد مكسباً بالغ الأهمية للروس الذين يبذلون قصارى جهدهم لتحجيم دور كييف، والحد من تأثيرها بالمصالح الروسية بعد أزمة القرم التي حكمت علاقاتها بموسكو منذ 2014.
وتشير التقارير الاقتصادية تصدير الغاز الروسي لأوروبا من الأراضي التركية سيعزز العلاقات بين البلدين، ويزيد من قدرة الروس على التداخل مع القوى الإقليمية بمشاريع المنطقة، أي أن مشروع “السيل التركي” سيمنح روسيا حلفا جديدا مع تركيا يعزز حلفها مع إيران.
وستصل “شحنات الغاز الروسي الى بلغاريا واليونان وجمهورية شمال مقدونيا، ويتم تسليمها عبر نقطة التسليم الجديدة” على الحدود البلغارية التركية.
اما الأهمية الاقتصادية بالنسبة الى تركيا ، هو بناء شراكة إستراتيجية مع الروس على أسس تبادل المنافع الاقتصادية.
ومنها الحصول على حصة كبيرة من الغاز الروسي بسعر مخفض، فضلاً عن اقتطاعها لعمولة جيدة من سعر الغاز المتدفق إلى أوروبا عبر أراضيها.
ووفقا للمراقبين، فإن تركيا تعمل جاهدة من أجل فرض نفسها كقوة في سوق الطاقة، رغم أنها ليست بلدا منتجا لها، وذلك عن طريق تجميع خطوط الإمداد في أراضيها لتصبح ممرا إستراتيجيا للغاز والنفط.
حيث تعمل تركيا على بناء حوض ضخم من الغاز، عبر ربط خطوط الأناضول وجنوب القوقاز والبحر الأدرياتيكي المارة من أراضيها ببعضها البعض.
وبحسب الساسة الأتراك، فائدة كبرى لبلادهم كإحدى أكبر المستهلكين للغاز في ظل التطور الصناعي الذي تشهده تركيا، وكذلك إنهاء مخاطر عبور الغاز في أراضيها وتحوله إلى خط بحري، بالإضافة لتحولها إلى دولة ممر ووسيط لتجارة الغاز.
وسيسهم في تخليص أنقرة من مخاطر العبور (مرور الغاز عبر أراضي بلاده)، بجعلها المشتري الأول للغاز الطبيعي.
وحول ارتباط “السيل التركي” بالصراع على الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط أكد مراقبون أنه “منفصل عنه، وهذا المشروع غير مرتبط به”، وأن “المشروع سيؤمن لتركيا جزءاً من احتياجاتها من الغاز، ولكن أنقرة ستبقى بحاجة للغاز الذي يجري البحث عنه في شرق المتوسط، أي أن تركيا بحاجة لكلا المصدرين، وهو ما يؤكد إصرار الطرف التركي على حماية حقوقه من الغاز في المتوسط”.
بالإضافة الى أن خط الغاز الجديد “سيسهم بتخفيض أسعار الغاز على تركيا وفي أسواقها أيضاً، وسيعطي أنقرة قوةً في الميدان السياسي، وخاصة فيما يتعلق بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا”.
وفي الختام.. ووفقا لخبراء اقتصاديين أتراك، فإن أنقرة تريد فرض نفسها كقوة في سوق الطاقة، رغم أنها ليست بلدا منتجا لها، عن طريق اتفاقيات وتحالفات وتسهيلات من اجل تجميع خطوط الإمداد في أراضيها، لتصبح ممرا إستراتيجيا للغاز والنفط.
وحدة الدراسات الاستراتيجية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية