هذا الاستنتاج ليس جديداً ولا مفاجئاً، فمنذ الفترة الأولى لرئاسة أوباما بدأ الحديث عن تغيير الوجهة أو تغيير الأولويات. وفي العادة، فإنّ الجمهوريين هم الذين لا يحبذون التوسع الكبير للدولة الأميركية بالداخل والخارج. لكنّ أوباما الديمقراطي هو الذي قاد موجة تغيير الأولويات. وجاء ذلك بعد البلاء الأعظم الذي أنزلته إدارة بوش الابن بالمنطقة والشرق الأوسط بغزو العراق بعد أفغانستان. وإذا كان لغزو أفغانستان مسوِّغ نوعاً ما، بسبب تمركز «القاعدة» فيها، وإغارتها، بل إغاراتها على الولايات المتحدة، ومصالحها، وبخاصة غزوتها الشهيرة عام 2001؛ فإنه ما كان هناك أي مبرر معقول لغزو العراق عام 2003. وهكذا، فإنّ الجمهوريين الانعزاليين عادة هم الذين ورّطوا الولايات المتحدة في الغزو الجديد. وكما فشل الأميركيون حتى اليوم في إنهاء الحرب وإقامة الدولة «الديمقراطية» في أفغانستان، كذلك اتضح فشلهم منذ العام 2007 بالعراق. وفي الأمرين؛ إخماد «الإرهاب الإسلامي»، وبناء الدولة الديمقراطية بالعراق أيضاً. ولذلك، وبعد العام 2008 صار هناك إجماع لدى الأميركيين بضرورة الخروج من العراق. وقد صرّح أوباما بالأهداف الاستراتيجية الجديدة؛ الاتجاه للتركيز على الصين والشرق الأقصى، بالنظر لعدم إمكان الكفاح على عدة جبهات، وإنهاء العداوات مع إيران خلال الخروج التدريجي؛ ومن ذلك: ضمان أمن إسرائيل، وتخفيض التهديد ضد دول الخليج، علماً بأن الولايات المتحدة ما عادت تحتاج كثيراً للطاقة من الخارج. كيف تُنهي الولايات المتحدة العداوات مع إيران، وكيف تضمن أمن إسرائيل؟ كان الكود إنهاء التهديد النووي الإيراني، الذي حشدت الولايات المتحدة وراءها من أجله الدول الأوروبية، التي كانت مهمومة أيضاً بالصواريخ الباليستية الإيرانية. وقد نجح الإيرانيون بأسلوبهم التفاوُضي في المطاولة في أن يضمنوا أمرين تحت أنظار الأميركيين والأوروبيين؛ الاستيلاء على العراق، والاستيلاء على لبنان؛ من خلال الميليشيات الموالية لهم. وعندما عجزوا عن السيطرة على سوريا بمفردهم، أشركوا الروس (وهذه المرة بالموافقة الصريحة للأميركيين). أما الولايات المتحدة فقد نجحت خلال 7 سنوات من التفاوُض والتجاذب في تأمين أمن إسرائيل، وفي الخروج من العراق، مع وضع المسؤولية في الترديات على عواتق النخب العراقية الجديدة، وعلى إيران!
ويختلف المراقبون في مدى تأثير تدخلات الديمقراطيين بالشرق الأوسط على فشلهم (حادثة بنغازي ومقتل القنصل الأميركي مثلاً) ونجاح ترمب عام 2016. لكن ّ ترمب وضع على لائحة برامجه في الانتخابات وما بعدها الخروج من سوريا والعراق مع ضمان أمن إسرائيل. وأمن إسرائيل مضمون، فـ«حزب الله» ما أغار على إسرائيل منذ العام 2006. والردود الإيرانية على حصار ترمب كانت ضد الملاحة البحرية، وضد السعودية من خلال ميليشيات الحوثي، ومن طريق الإغارات المباشرة على المرافق النفطية، حتى على الحرم المكي!
ما تدخل الروس في سوريا تدخلاً مباشراً وقوياً يغيّر الموازين إلا في العام 2015. وكانوا قد ندموا كثيراً على ترك القذافي لمصيره 2011 – 2012. وكانوا ضامنين عدم حصول سوء تفاهم كبير مع الولايات المتحدة من خلال المحادثات المباشرة، والتنسيق بين العسكريين من الطرفين، والاجتماعات بين الرئاستين. وكان المستهدف أن يحلَّ الروس «والإيرانيون؟» محلّ الأميركان في سوريا، بعد أن حلَّ محلَّهم الإيرانيون بالعراق. وبقيت 3 مشكلات ما وجدوا لها حلاً؛ الأكراد السوريون والعراقيون، والأتراك ومخاوفهم، والمتطرفون العنيفون الذين صعدوا بقوة. ثم حصل في العام 2015 ما لم يكن في الحسبان؛ استيلاء «داعش» على شمال سوريا، واستيلاؤه على ثلث العراق. وما كانت روسيا مستعدة لتحمل العبء، بل اكتفت هي وإيران بحماية المناطق التي بقيت تحت سيطرة الأسد. وهكذا عاد الأميركيون وتزعموا حملة دولية ضد الإرهاب الداعشي. ودون أن يتعرضوا بالطبع للروس ولا للإيرانيين، بل نشأ نوعٌ من التعاون مع الطرفين، ومن ضمن ذلك مع سليماني!
مع اقتراب الأميركيين من الانسحاب من المنطقة، دخل الروس في التفكير كيف يحلون محلّهم. ولم يربطوا ذلك بأوضاع المنطقة فقط (وجود الإيرانيين والأتراك وإسرائيل والعرب)؛ بل بالقرم وأوكرانيا وشرق أوروبا، وأميركا اللاتينية! في المنطقة اعتبروا أنفسهم ضمانة أيضاً لأمن إسرائيل. وتحالفوا مع إيران ومع تركيا. وهم يطوّرون مصالح استراتيجية مع تركيا، وقد يدخلون هم والصين في تيار حماية إيران من الولايات المتحدة. وهكذا يقومون بما كان يقوم به الأميركيون عندما حلّوا محلّ الفرنسيين والبريطانيين في الخمسينات. حتى مع العرب، يدخلون مدخل الحكماء والضابطين الذين لا يريدون أن يطغى الإيرانيون عليهم، وكذلك الأتراك. وهم مثل الأميركيين يستضعفون الأوروبيين، ويعتبرونهم ذوي ثروة مثل العرب، ولذلك يوشكون على إلحاقهم بهم إذا قبلوا ذلك. وليبيا مثالٌ على ذلك. فعندما عجز العرب والأوروبيون خلال أكثر من 5 سنوات عن استيعاب المشكلة الليبية، وقلّد إردوغان الإيرانيين في محاولة الاستيلاء على بعض الثروة الليبية مثل سوريا، تدخل بوتين في مؤتمري موسكو وبرلين لكي يعمل الجميع تحت مظلته؛ العرب والأوروبيون والطرفان الليبيان. وهو يدعم علناً حكومة الوفاق، لكنه يزوّد المشير حفتر بالسلاح والمقاتلين مثلما فعلت فرنسا سابقاً.
وهناك فارقان بارزان بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة. الولايات المتحدة هي دائماً في سعة من السلاح والمال والبرامج، ودعوى التفوق الأخلاقي! وليس عند روسيا غير السلاح. ومع أن الصين معها، فإنها فشلت حتى الآن في إدخالها مساعداً بالمال والأسواق والإعمار! والفارق الآخر أنّ كل شعوب المنطقة وأكثر نخبها تعودوا على الأميركيين، ليس في السلاح فقط؛ بل في المستشفيات والجامعات ومحطات التنمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
وتبقى ملاحظة أخيرة قبل الخاتمة؛ من بين الأطراف الأربعة الذين تعامل معهم الأميركيون، ويتعامل معهم الآن الروس، الطرف العربي، هو الأكثر حيرة واستنزافاً. وليبيا بعد سوريا هي خير مثالٍ على ذلك، فلو أنّ المصريين والجزائريين والمغاربة والتونسيين تعاونوا لاستيعاب المشكلة لما كان وجود للأوروبيين وطمع الأتراك والروس، وتفاقم القتال والخراب! لذلك ففي حين أقام بعض العرب علاقات براغماتية مع روسيا والصين، ما يزالون جميعاً يحنّون للعهد الأميركي الذي يوشك أن ينقضي!
وفي الخاتمة… قررت إدارة ترمب فجأة تصعيد الصراع مع إيران بالقيام بضرباتٍ قوية لـ«الحرس الثوري» في رؤوسه وميليشياته، فهل تنتقض التعهدات وتعود إيران لتهديد إسرائيل، وهل تلعب إحساسات الهيبة والسطوة دوراً في تأخير الانسحاب الأميركي مرة ثالثة ورابعة؟! كل ذلك ممكن. لكنّ الذي يبدو أن التحول الاستراتيجي من جانب الدولتين العظميين قد حصل، أما الإقليميون فيحاول كل منهم التسلق بحسب ما يرى أن مصالحه تقتضي، «وتلك الأيام نداولها بين الناس»!
رضوان السيد
الشرق الاوسط