عد أن اجتاز محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، مرحلة التوصل إلى الاتفاق النووي مع أقرانه في الدول الست، جاءت المرحلة الأهم والأبعد مدى، وربما الأكثر صعوبة من المشروع الإيراني في المنطقة، ألا وهي مرحلة تأسيس نظام إقليمي تتزعمه إيران ويضم الدول العربية التي تتمكن طهران من الهيمنة عليها، كما حدث في العراق. وفي سياق هذه المهمة نشرت صحف عربية وأجنبية ثلاث مقالات
لظريف بينما كان يتأهب للقيام بجولة خليجية سريعة
تتبعها جولات مماثلة في عدد من الدول العربية. وقد
بدت هذه المقالات كأن الغرض منها هو تسويق الاتفاق النووي الأمريكي-الإيراني، وتهدئة المخاوف ومشاعر القلق التي انتشرت في بعض المجتمعات الخليجية والدولية بعد التوصل إلى الاتفاق. إلا أن الهدف البعيد المدى للدبلوماسية الإيرانية
كان ماثلاً بجلاء في الأفكار التي عرض لها ظريف في مقالاته الثلاث.
تناولت هذه المقالات صورة مختصرة للنظام الإقليمي الجديد في المنطقة كما يتصورها الزعماء الإيرانيون، كما تناولت أيضاً الطريق للوصول إلى هذا النظام الذي يتكون من تكتلين إقليميين رئيسيين:
الأول، يشكل الحلقة الأضيق من إيران ومن دول خليجية أخرى. ويعمل هذا التكتل بمثابة التكتل العميق للدول المشاركة فيه. فإذا أردنا مقارنته بغيره من المنظمات لقلنا إن دور هذه الحلقة من التكتل هو أشبه بدور الدول الأوروبية الستة التي وقع في روما عام 1957 على ميثاق تأسيس السوق الأوروبية المشتركة، أو انه يشبه دور منطقة اليورو في الاتحاد الأوروبي.
الثاني، هو التكتل الأوسع الذي يضم جميع الدول الإسلامية في الشرق الأوسط.
أما الطريق إلى قيام هذا النظام الإقليمي، فيبدأ، كما يقول في مقاله المنشور باللغة العربية، بتشكيل «مجمع للحوار الإقليمي في منطقتنا». يجدر بالذكر أن ما جاء في مقال ظريف بالعربية يختلف عن المقالين الآخرين بالإنجليزية من نواح ثلاث رئيسية. ففي ما نشره ظريف بالعربية تركيز على الطابع الحواري للمجمع المقترح، وتمويه لحدود المجمع، وإغفال لهويته. أما في ما كتبه الوزير الإيراني بالإنجليزية وإلى الجمهور الإنجلو سكسوني بصورة خاصة، فإنه يتحدث بصراحة أكبر عن إمكانات تحول الإطار الحواري إلى أساس لاتفاقات وإجراءات محددة ورسمية في مجال الأمن الإقليمي، فضلاً عن مجالات التنمية وتعزيز السيادة والاستقلال. كذلك يخطو ظريف بمشروعه خطوة أخرى مهمة على طريق مأسسته وتدويله، إذ يتضمن إعطاء منظمة الأمم المتحدة دوراً رئيسياً في الإشراف على الحوار ومندرجاته.
أما حدود «المجمع»، فإن ظريف يصفه بالإنجليزية بنظام إقليمي خليجي «موسع». ولا يوضح وزير الخارجية الإيراني كيف يكون التوسع، ومن هي الدول الخليجية المقترحة، ولكن أخذاً في الاعتبار العوامل الجغرافية والسياسية ذات الصلة بقضية الخليج، فإنه من الأرجح أن يكون التوسع باتجاه ضم العراق واليمن إلى إيران، ودول مجلس التعاون الخليجي إلى المشروع الإقليمي الإيراني. ليس في ذلك غرابة كبيرة، فالعراق هو دولة خليجية بحكم قربه من الخليج، وعلاقة اليمن بالخليج كانت موضع بحث داخل مجلس التعاون نفسه. أما هوية المجمع، أو التكتل الإقليمي الذي يقترحه ظريف، ففيما تغيب هويته كلياً عن المقال بالعربية ويكون التركيز على القواسم المشتركة بين الدول الخليجية التي تتجلى في الدين والثقافة والسياسة والجغرافيا، تطل الهوية بقوة على المشروع في مقال «نيويورك تايمز» إذ يجاهر د. ظريف بأن الحوار والتكتل الإقليميين هما بين دول منطقة الخليج «الفارسي».
لقد تستر الوزير الإيراني على هوية المشروع المقترح عندما شرحه بالعربية لسبب بديهي هو أن دول الخليج العربية تعتبر أن في تمسك طهران بتسمية الخليج الفارسي ما يتجاوز المصطلحات اللفظية فحسب، وأنها تقترن بمشروع إيراني قديم للسيطرة على منطقة الخليج وتفريسها. ألم يحرص شاه إيران على الاضطلاع بدور «شرطي الخليج»؟ الم ترفع الثورة الإيرانية شعار «تصدير الثورة» منذ البداية؟ ونظراً لهذا الاعتبار، فإنه ليس من المستغرب أن يمسك ظريف الذي يتأهب للقيام بجولة خليجية تطمينية، عن إطلاق مشروع تكتل إقليمي لدول الخليج الفارسي. ولكن هل كان الوزير الإيراني في حاجة إلى أن يعبر تصريحاً بالإنجليزية عما ابتعد عنه ولو تلميحاً باللغة العربية؟ ألا تثير المطالبة في العواصم الإنجلو سكسونية بمنظمة إقليمية «فارسية» ردود فعل سلبية أيضاً؟
ليس بالضرورة. فرغم كل أجواء العداء. رغم شعار «الموت لأمريكا» وما صاحبه من توترات ومجابهات هنا وهناك، بقيت الأقنية الخلفية تعمل بهدوء وفي الخفاء من أجل إعادة العلاقات بين البلدين. عبر هذه الأقنية تم التنسيق بين الطرفين في العراق ليس إبّان الاحتلال فحسب، وإنما خلال الحرب العراقية-الإيرانية وأفغانستان وكوسوفو. ورغم العقوبات والأشكال الأخرى من الضغوط التي مارستها واشنطن على طهران، فقد استمرت بموازاتها مجهودات من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين، فكان من نتائجها المحادثات الأمريكية-الإيرانية الحالية بصدد بناء خط لأنابيب النفط الإيراني عبر تركيا مما يخفف من اتكال أوروبا على النفط الروسي، ومن نتائجها أيضاً اتجاه طهران إلى الإعلان خلال شهر سبتمبر/أيلول المقبل عن مناقصات عالمية للتنقيب عن حقول نفط جديدة. فضلاً عما سبق، فإنه ينبغي أن نلاحظ أن مشروع ظريف ينطلق من تجاهل كامل للمشروع العربي وللنظام الإقليمي العربي.
ففي المقالات التي نشرها لم يأت مرة على ذكر الدول العربية. وهذا الموقف يلقى ترحيباً كاملاً في بعض الأوساط الدولية المعادية للعرب، واستعداداً لتشجيع هذا النوع من المبادرات والمشاريع. ولا نقصد هنا أن مبادرة ظريف ترمي إلى إرضاء هذه الاوساط، ولكن المقصود أن هذه الأوساط لن تتوانى عن توظيف الموقف الإيراني السلبي ضد النظام الإقليمي العربي في سياق حملتها الرامية إلى الإجهاز على هذا النظام بصورة مبرمة.
رغيد الصلح
صحيفة الخليج