قلنا في مقال سابق، إن قرار الرئيس الأمريكي ترامب بإنهاء اللعبة المزدوجة التي مارسها الأمريكيون والإيرانيون على أرض العراق بعد نيسان/ أبريل 2003، وصولا إلى أيار/ مايو 2018، وقرار الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق النووي مع من جانب واحد، وبدء سياسة الضغط والعقوبات ضد إيران. فرض على العراق أن يكون حاضرا في سياق هذا الصراع، بوصفه طرفا منفعلا وليس فاعلا، ثم فرض على صانع القرار السياسي في العراق، وهو هنا الفاعل السياسي الشيعي حصرا، الذي تأقلم مع هذه اللعبة المزدوجة، أن يتخذ موقفا صريحا من هذا الصراع، إذا ما أراد أن يبقي على الدعم الامريكي الضروري للعراق أمنيا وسياسيا واقتصاديا! في المقابل قامت إيران باستخدام كل أدواتها في العراق لمنع محاولة إخراج العراق من العباءة الإيرانية وإعادة موضعته في سياق المواجهة القائمة. خاصة وان نتائج المواجهة مع داعش، ونتائج انتخابات العام 2018، قد فرضت واقعا جديدا جعل إيران تفترض أن تغولها في العراق أصبح أمرا واقعا لا يمكن تجاوزه!
وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد اضطرت، بسبب طبيعة الوضع الهش في العراق، أن تقبل باستثناء العراق من عقوباتها تجاه إيران، تحديدا في ملفي الغاز والكهرباء (يعد العراق ثاني أكبر مستورد للغاز الإيراني، وهو يعتمد على هذا الغاز في توليد 47٪ من الكهرباء)، فضلا عن تغاضيها عن التبادل التجاري الواسع بين البلدين، والذي يصل إلى ما يزيد من 7 مليار دولار سنويا (من دون حساب الأرقام غير المعلنة المتعلقة بالسلاح والعتاد!)، طوال الأشهر الخمسة عشر الماضية، إلا أن من الواضح أن ثمة قرارا أمريكيا بأن يكون هذا الملف جزءا من أوراق الضغط فيما يتعلق بموقف العراق في الصراع مع إيران، وعلاقة ذلك بتشكيل الحكومة العراقية المرتقبة، وكان هذا واضحا من خلال قرار تمديد هذا الاستثناء لثلاثين يوما فقط، بعد ان كان يتم تمديده ذاتيا لمدة تنازلت من 120 و90 و45 يوما فيما مضى. وقد تزامن هذا القرار مع قرار إعادة انتشار القوات الامريكية في العراق، فضلا عن سحب الدبلوماسيين الأمريكيين منه (طبعا لا يمكن تجاهل دور انتشار فيروس كورونا المستجد في التسريع بهكذا قرار).
فكما كان متوقعا، وسبق أن أشرنا اليه في مقالة سابقة، فان الطلقة الأولى بين الطرفين كانت في العراق، وفشلت الحكومة العراقية في الإيفاء بالتزاماتها المعلنة بأن يكون العراق على مسافة واحدة بين الطرفين في هذا الصراع، وقد أطاحت الرسائل المسلحة بين الطرفين الأمريكي (رسائل الدرونز ثم القصف المباشر واغتيال سليماني المهندس)، والإيراني (عبر وكلائها بشكل رئيس وعبر تدخلها المباشر في قصف قاعدة عين الأسد)، بأي إمكانية للدولة العراقية في تحديد طبيعة ومدى هذا الصراع! وكان هذا واضحا من خلال تجاهل الولايات المتحدة للدعوات الصريحة التي أعلنتها الحكومة العراقية بشأن الوجود الأمريكي في العراق، وصولا إلى نشر صواريخ باتريوت في قاعدتي عين الأسد (الأنبار) وحرير (أربيل) دون موافقة الحكومة العراقية أصلا! ومن خلال استمرار المليشيات الولائية (وكلاء إيران) في عمليات القصف ضد القواعد التي يتواجد فيها الامريكيون قبل قرار إعادة الانتشار!
يبدو أن التهديدات الأمريكية، والفعاليات العسكرية الأمريكية على الأرض، بدأت ترسم ملامح معادلة جديدة غير مسبوقة، أعطت الجرأة لبعض الفاعلين السياسيين للمناورة، للمرة الأولى أيضا، وإن لم يصل الأمر إلى قطيعة كاملة مع الفاعل الإيراني! لمعرفة الجميع بأن السياسة في العراق لا تحددها قواعد اللعبة السياسية فقط، بل يحددها السلاح الموازي المرتبط عضويا بالفاعل الإيراني
إن دخول الصراع الأمريكي الإيراني مرحلة المواجهة، تحديدا بعد قرار اغتيال سليماني المهندس، قد أفضى إلى جملة من المتغيرات التي لا يمكن إغفالها في هذا السياق، فالإيرانيون بفقدانهم لقاسم سليماني قد فقدوا مفتاحا رئيسيا في تعاطيهم مع الشأن العراقي، بسبب طبيعة العلاقات الشخصية التي نسجها الرجل طوال عمله في هذا الملف، حتى قبل لحظة 2003، من خلال تلك العلاقات التي ربطت المعارضة الشيعية والكردية بالحرس الثوري الإيراني، لذلك يصعب على أي بديل له أن يملأ الفراغ الذي تركه بسهولة، وهنا لا بد من الانتباه إلى ان الدور الإيراني في العراق يتعلق بالدرجة الأساس بموقف استراتيجي للدولة الإيرانية يديره المرشد الأعلى والحرس الثوري وليس بشخص سليماني فقط. كما فقد الإيرانيون بفقدانهم لأبي مهدي المهندس، عنصرا جوهريا من عناصر تواجدهم الميداني في العراق، بسبب ما كان يتمتع به الرجل من إمكانيات لا يمكن تعويضها، ليس في ضبط حركة الميليشيات الولائية، واحتواء الميليشيات غير الولائية، وضبط العلاقة بالدولة العراقية فقط، بل في إدارة استراتيجية انتاج الدولة الموازية في العراق التي يم المأسسة لها (هذا ما يفسر العجز عن إيجاد بديل متفق عليه حتى اللحظة). وقد انعكس هذا بشكل واضح في موضوع اختيار المكلف بتشكيل الحكومة العراقية، فقد عجز الإيرانيون للمرة الأولى بعد عام 2003 في صناعة أغلبية سياسية شيعية قادرة على تمرير المكلف بتشكيل الحكومة (الأستاذ علي توفيق علاوي)، أو في صناعة أغلبية سياسية شيعية قادرة على فرض رأيها فيما يتعلق بتكليف المكلف اللاحق (الأستاذ عدنان الزرفي). وبدا للمرة الأولى ان الفاعلين السياسيين الأكثر قربا من إيران قد فقدوا قدرتهم على تحديد مسار السياسة الشيعية في العراق، ومن ثم مسار العملية السياسية في العراق ككل!
في المقابل، يبدو ان التهديدات الأمريكية، والفعاليات العسكرية الأمريكية على الأرض، بدأت ترسم ملامح معادلة جديدة غير مسبوقة، أعطت الجرأة لبعض الفاعلين السياسيين للمناورة، للمرة الأولى أيضا، وإن لم يصل الأمر إلى قطيعة كاملة مع الفاعل الإيراني! لمعرفة الجميع بأن السياسة في العراق لا تحددها قواعد اللعبة السياسية فقط، بل يحددها السلاح الموازي المرتبط عضويا بالفاعل الإيراني الذي يتم التلويح به بشكل علني!
ما زال من المبكر الحكم على مخرجات الصراع الأمريكي الإيراني في سياقه العراقي، ومن السذاجة التفكير بان هذا الصراع قد يحسم قريبا، خاصة وان كلا الطرفين حريص تماما على عدم وصول المواجهة إلى حرب صريحة، والاكتفاء برسائل مسلحة بين حين وآخر، تشتد وتهدأ بإيقاع مسيطر عليه! وهو ما يعني في النهاية أن بعض عناصر اللعبة المزدوجة، ستبقى حاضرة، اضطرارا، وإن بقواعد جديدة، بما لا يتيح لأي من الطرفين الانفراد بإدارة اللعبة التي اسمها العراق كما يريد!
يحيى الكبيسي
القدس العربي