حرصت الولايات المتحدة في البحث عن مكانة مهمة، يضمنها الأداء الاستراتيجي الذي يتجاوب مع متغيرات النظام العالمي، وفي الأثناء ادعت أن سيطرتها على العالم تضمن الاستقرار الدولي، المكفول ببقاء قيادتها للعالم، وأنها هي ضمان الأمن الجيوسياسي لمعظم الدول على أرض الواقع، ولكن الذي حصل أن الرغبة في الهيمنة وسياسة الحروب الهمجية، ضمن استراتيجية ما سُمي بالحرب الوقائية أو الاستباقية، زعزعت الاستقرار ونزعت الأمان عن أغلب شعوب الأرض. ومحاولات استيعاب المتغير الدولي دفعت الولايات المتحدة إلى اعتماد استراتيجية «القوة الناعمة» في عهد باراك أوباما تحديدا، من حاصل إخفاق القوة العسكرية والسياسات الخشنة، التي كلفت الميزانية الأمريكية نفقات رهيبة، على حساب الداخل الاجتماعي، ومتطلبات المنظومة الصحية وفرص العمل. إلى جانب تراجع القوة الاقتصادية بسبب الأزمات المتلاحقة استتباعا. ومثل هذا الاختيار للأداء السلمي ظاهريا يُخفي دوافع مضمرة تهدف إلى مواصلة الهيمنة بطرق أقل تكلفة ماليا وبشريا.
ويبدو أن دروس الحروب الخارجية، وأبرزها مستنقع العراق وأفغانستان، هي السبب في هذا المنعطف الأدائي في مسايرة التغيير، والاحتكام إلى آليات جديدة وناعمة لإدارة النظام الدولي، ومحاولة ضبطه، حيث أصبح فريق الحرب داخل البيت الأبيض، ينقل الحروب إلى حلفاء واشنطن وهي تكتفي بالتوجيه، بدون أن تنفق دولارا واحدا، بشكل يجعلها تُدير حروبا بالوكالة في السنوات الأخيرة، وتتبنى مفهوم «القوة الذكية»، التي نظر لها جوزيف ناي وريتشارد أرميتاج، وطبقها أوباما في خياراته السياسية، كأداء استراتيجي بعد أن أخفقت «عالمية الحرب على الإرهاب» التي أعلنتها الإدارة الأمريكية، إثر سقوط برجي التجارة العالميين، في ظل تعقيدات الصراع الدولي والتحديات العالمية الكبرى.
حتى أن عبارة «محور الشر» التي ابتكرها الذين يكتبون الخطابات لبوش الابن، تُعد في رأي تشومسكي «شرا» بحد ذاته، لأنه من الواضح أنك إذا أردت تخويف الناس فإنك تُحدثهم عن الشر، أما كلمة «محور» فتذكرنا بالنازيين، إنه ليس محورا في واقع الأمر أبدا، إذا كان العراق وإيران في حالة حرب طوال عشرين سنة، أما كوريا الشمالية التي تم تصنيفها هي الأخرى ضمن هذا المحور، فعلاقتها بأي من هاتين الدولتين وقتها أقل من علاقة فرنسا بهما. ولهذا لا يمكن أن يكون ذلك محورا، ويبدو أنه زُج بكوريا الشمالية، لمجرد أن الإدارة الأمريكية اعتقدت أنها هدف سهل من ناحية، ولأنها غير مسلمة من ناحية أخرى، على اعتبار أن الهدف الحقيقي هو إبعاد الشبهة عن مناهضة الولايات المتحدة للمسلمين وملاحقتها لهم، خاصة إثر الخلط السياسي المتعمد، الذي حدث بعد أحداث 11 سبتمبر.
أما إيران فقد كانت مصدر خير بالنسبة لأمريكا وفي عام 1979 أصبحت في نظرهم شريرة، بعد أن انسحبت من النظام الإمبريالي. ومنذ ذلك الحين وهي تُعد «شرا»، لأن الإيرانيين لم يعودوا يتبعون الأوامر، كما كان الحال زمن الشاه.
مازالت العلاقات المتناسقة بين المشاركين الدوليين في التواصل مفقودة، أي علاقات الاعتراف المتبادل، والاستعداد المشترك لتأمل التقاليد الخاصة أيضا بعين الغريب، وأن نتعلم بعضنا من بعض. وعلى هذا الأساس لا يمكننا بتأكيد هابرماس أن ننقد القراءات المنتقاة، والتفسيرات المغرضة والتطبيقات الضيقة الأفق لحقوق الإنسان فقط، بل أيضا ذلك الاستعمال الوقح لحقوق الإنسان، من أجل حجب عالمي لمصالح خاصة تقود إلى الظن الكاذب، بأن كنه حقوق الإنسان يُستنفد بسوء استعمالها. على نحو يشرع التساؤل: ألم تعمل حقوق الإنسان درعا لعمومية كاذبة، لبشرية وهمية استطاع الغرب الامبريالي أن يخفي وراءها ذاتيته ومصلحته الخاصة، وعلى نحو ينهل من الواقعية التاريخية؟ هل من الممكن إنقاذ البشرية طالما أن الامبريالية تمر بأزمة عميقة؟ فبدون أزمة لا تحصل التغييرات ولا يتشكل الوعي، «يوم واحد في ظل أزمة ما، يشكل وعيا يوازي زمنيا أكثر من عشر سنوات بدون أزمة»، كما أكد فيديل كاسترو في خطاب ألقاه في مؤتمر حوار الحضارات 30 مارس 2005، وهو الذي تزعم كوبا، الدولة التي جسدت معنى التضامن الدولي، والتكافل الإنساني بإرسالها الطواقم والمساعدات الطبية لأكثر من بلد اجتاحته أزمة كورونا وضاقت به السبل.
فريق الحرب داخل البيت الأبيض، ينقل الحروب إلى حلفاء واشنطن وهي تكتفي بالتوجيه، بدون أن تنفق دولارا واحدا
وما تمر به الأمم في هذه الأزمة الكاسحة، يؤكد أن الحضارة السياسية لمجتمع عالمي ينقصها «البعد السياسي الخلقي المشترك» والضروري لتكوين جماعة عالمية وهوية إنسانية ملائمة، وعلى طروحات «ديمقراطية عالمية السياسة»، أن تتبع نموذجا آخر، إذ ليس باستطاعة مأسسة عملية التفاهم العالمي الحالية، أن تُعمم المصالح المشتركة، وأن تحفظ تماسك النسيج التنظيمي العالمي بوجود سياسات دولية تأتي «بصورة مشوشة» كتلك التي دفعت الولايات المتحدة، لتفعل ما تريد لما يزيد عن عقدين، تزامنا مع تفردها بقيادة النظام العالمي، علما بأن أحد الأسباب التي دعت أمريكا لغزو العراق وأفغانستان هو قدرتها على تحقيق ذلك. وبالتالي وجود نظير استراتيجي، كان بإمكانه إبقاء العلاقات الدولية منصفة على قاعدة التشارك في حفظ السلم والأمن الدوليين. ومنذ مدة لا يخفي الخطاب الرسمي الصيني والروسي تشوفهما إلى عالم متعدد الأقطاب، وأقل خضوعا لهيمنة الولايات المتحدة. وحول مستقبل التنافس العالمي لا تطمح أمريكا أو الصين أن تدخلا في سجال عسكري، من أجل الهيمنة استنادا إلى قاعدة تاريخية يؤكدها أمثال نوح فلدمان، وهي تثبت أنه لم يحدث أبدا في السابق أن تكون القوة العظمى العالمية في حالة ترابط شديد مع القوة الصاعدة التي تتحتم مواجهتها، وبالتالي في ظل هذه الظروف، فإن التجارة والديْن يعطيان دوافع اقتصادية كبيرة من أجل تجنب الصراع، الذي قد يدفع الجميع ثمنه غاليا. ومع مرور الوقت فإن الاهتمامات المشتركة بين البلدين، سوف تغرق المشاكل التي قد تنشأ بينهما، أي شيء آخر سيكون غير عقلاني بمنتهى البساطة فقط «إذا ما كان العالم بهذه البساطة».
وما يبقى طي الكتمان هو صعوبة إضعاف الدولار كعملة الاحتياطي العالمي، باعتباره الرهان الحقيقي الذي سيقلب موازين القوى. فمجرد قبول الأسواق بأي عملات كاحتياطي نقدي جديدة ستكون ضربة قاصمة للعنفوان الأمريكي، بشكل يؤكد أن تغير الهيئة الحالية للاحتياط النقدي العالمي هو بمنزلة معادلة القوة الجيوسياسية للولايات المتحدة، التي تمر بارتباك اقتصادي لا مثيل له، تدرك في سياقه أن فاعلين آخرين يمكن أن يستفيدوا، وأن من بين اهتماماتهم تغيير الطريقة التي تتم بها عملية توزيع القوة الاستراتيجية عالميا.
لطفي العبيدي
القدس العربي