تحوّلت القمة الأوروبية ـ الصينية، التي عُقدت افتراضياً يوم الاثنين الماضي، إلى محطة مفصلية في العلاقات بين الطرفين. وكشفت تطوراتها التي شارك فيها الرئيس الصيني شي جينبينغ، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، ورئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، أن العلاقات متوترة وتمرّ في مآزق. ويظهر ذلك مما يمكن اعتباره سلوكا سلبيا للصين بالنسبة لأوروبا في السنوات الماضية، فضلاً عن التعاطي مع ملف تفشي وباء كورونا في العام الحالي، وهو ما يثير توجساً متفاوتاً بين الدول الأوروبية. ويرى بعض الأوروبيين أن الصين تستخدم المال والاقتصاد للتأثير على القارة وترجمته بنفوذ سياسي، ما يبعد الطرفين عن الوصول إلى حلول لمسائل معقدة. ووفقاً لدبلوماسيين أوروبيين، مطلعين على مجريات قمة يوم الإثنين، فقد فشل الطرفان حتى في إصدار بيان دبلوماسي مشترك أو عقد مؤتمر صحافي، كما هو معتاد. ودفع التعنت الصيني فون ديرلاين وميشال إلى التصريح بأن الصين “واحدة من أهم علاقاتنا، لكنها الأكثر تحدياً وتوتراً”. وبحسب تعبير صحافة دول الشمال الأوروبي (الدنمارك، فنلندا، إيسلندا، النرويج، السويد)، فإن أحد مصادر انزعاج الأوروبيين من “هجمة صينية”، متعلق بسياسات دعم الصين الهائلة لشركاتها في أوروبا.
بالإضافة إلى ذلك، فقد عبّر الأوروبيون عن رفضهم لسياسة الصين الإعلامية، باتهامها بنشر أخبار زائفة في “تقويض للديمقراطيات الغربية”، مستحضرين “قانون الأمن القومي” الصيني في هونغ كونغ، للدلالة على أن بكين تسعى جاهدة إلى تقييد الحريات السياسية في الإقليم. وعلى الرغم من إشارة فون ديرلاين وميشال إلى أنهما ناقشا هذا القلق مع الصينيين، إلا أنه من الواضح أن الأمور لم تسر كما تمناها الأوروبيون. وكشف ميشال أن القمة طرحت آراء الأوروبيين في قضية القانون المتعلق بهونغ كونغ ومجمل مسألة حقوق الإنسان، إلا أن بكين أدارت ظهرها للقلق الأوروبي، مع رفض شي ورئيس وزرائه لي كيكيانغ الخروج ببيان مشترك. مع العلم أنه في قمة مماثلة العام الماضي، حرص الطرفان على الخروج ببيان تحدث عن تساؤلات أوروبية متعلقة بـ”الهجمة الصينية الاستثمارية”، باعتبار أن “الاتحاد الأوروبي والصين ملتزمان ببناء علاقات اقتصادية تقوم على الشفافية وعدم التمييز وعلى منافسة عادلة وشفافة”.
”
فشل الطرفان حتى في إصدار بيان دبلوماسي مشترك أو عقد مؤتمر صحافي
”
قضية الشفافية في العلاقة التجارية، لناحية “عدالة المنافسة”، أصبحت من أهم أولويات الاتحاد الأوروبي. فالشركات الصينية استغلت سياسة السوق المفتوح في دول الاتحاد لتعزيز وجودها وتسلّحت بدعمٍ حكومي في بكين، على وقع معاناة الشركات الأوروبية في منافستها. ومن الواضح أن الخيبة الأوروبية ازدادت من سياسة الصين الحمائية والتفضيلية لشركاتها.
في السياق، لم تتردد فون ديرلاين في التعبير عن مرارتها من اختلال الميزان لمصلحة الصين، بالقول إنه “لا تزال لدينا علاقة تجارية واستثمارية غير متكافئة، ولم تحرز القمة الأخيرة ما أحرزته قمة العام الماضي بشأن الوصول إلى الأسواق”، داعية بكين إلى “تقديم تنازلات بشأن قوانين دعم الدولة للشركات الصينية مع أهمية وجود شفافية في المجال”. وحتى قبل القمة الأخيرة توقع خبراء أوروبيون أن تصل العلاقة إلى “جبهة باردة”، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى انتهاج سياسة رافضة لما وصفه “فرض سياسة الأمر الواقع”، ومواجهة الاستثمارات الصينية المدعومة، فأصدرت مفوضة التنافس، الدنماركية مارغريت فيستآيا، ما بات يعرف في أوساط الاتحاد بـ”الورقة البيضاء”.
وحسبما نشر موقع الاتحاد الأوروبي عن الورقة، فإن أوروبا تتجه لتطبيق سياسات صارمة فيما يتعلق بتنظيم مساعدات حكومية خارجية لشركات تعمل على أراضي الاتحاد الأوروبي. هذا إلى جانب أن الورقة تسمح للسوق الأوروبية بـ”إجراء مسح وفحص” تفصيلي للاستثمارات الأجنبية في أوروبا، وإصلاح قواعد مساعدات الدول لشركاتها المستثمرة، استناداً إلى اتفاقية منظمة التجارة الحرة.
وإزاء هذه السياسات الأوروبية، ردّ السفير الصيني في بلجيكا (لأهمية البلد كمقر لمؤسسات الاتحاد الأوروبي)، تساو تشونغمينغ، في مقابلة مع “إي يو أوبزرفر” في 22 يونيو/حزيران الحالي، معرباً عن قلقه من “هذه النوعية من الاتهامات التي تعطي انطباعاً خاطئاً عن أن الصين تقوم بخداع الرأي العام الأوروبي”. واعتبر تساو أن الخطاب الأوروبي حول هونغ كونغ غير مقبول “فهي جزء من السيادة الصينية ومسألة داخلية ولن تسمح الصين بتدخل أجنبي في الأمر”.
”
حوار أميركي ـ أوروبي مشترك لمواجهة “المخاطر” الصينية
”
مع ذلك فإن الصين تراهن على انقسام المعسكر الأوروبي، فرغم أن مواقف الاتحاد الأوروبي، على المستوى السياسي والبيانات والخطط الاستراتيجية تجاه الصين، تبدو موحدة، كما في “الخطة الاستراتيجية للعلاقة مع الصين” في مارس/آذار 2019، إلا أن الاختلاف واضح بين مواقف تدعو للصرامة، كموقف السويد على سبيل المثال في المجال الحقوقي، وتلك التي تولي أهمية للتجارة والاستثمارات أكثر من “القيم الديمقراطية والحقوقية”، كحالتي اليونان والمجر. فالصين تدخلت في اليونان من خلال سياسات استثمارية، خصوصاً في الموانئ فضلاً عن إقامة مناطق صناعية، في وقتٍ يتخبّط فيه الأوروبيون منذ نحو 9 سنوات بشأن إنقاذ البلد من الإفلاس.
ودفع اختلال توازن العلاقة إلى بروز أصوات أوروبية محذّرة من التراخي أمام الصينيين، ما وضع الاتحاد الأوروبي أمام موقف صعب، خصوصاً أن العلاقات مع الأميركيين، وهم حلفاء ؤها التاريخيون، متوترة بوجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض. ويُصعب هذا الأمر على الاتحاد الأوروبي ترجمة خطته الاستراتيجية تجاه الحدّ من النفوذ الصيني من دون الأخذ بالاعتبار أن الولايات المتحدة تصنّف الصين “خصماً” لها. بالتالي، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه بين معضلتين: تراكم أسباب النفور من سياسات الصين في القارة، والحاجة في الوقت نفسه لإظهار استقلالية عن الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن انتهاج أوروبا لسياسة مواجهة مع الصين، على الصعيدين التجاري والمالي، يصب في الاستراتيجية الأميركية التي أعرب عنها مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، في كتابه “الغرفة التي شهدت الأحداث: مذكرات البيت الأبيض”، عن أن “ترامب يقول في كثير من الأحيان إن أفضل طريقة للتغلب على الصين عسكرياً يأتي بوقف نموها الاقتصادي على حساب أميركا”.
قد لا يسعى الأوروبيون لوقف النمو الصيني، ولا الدخول في صراعات، أو التحول إلى متاريس رملية في استراتيجية مواجهة واشنطن لبكين، والتي يقدّر محللون أوروبيون استمراريتها، حتى لو تبدل ساكن البيت الأبيض. ويبدو أن القارة الأوروبية تود أن تنتهج مع الوقت سياستها الصينية الخاصة بها، المستندة إلى المصلحة الأوروبية أولاً، خصوصاً مع ما أظهره وباء كورونا من خلل في الصناعات الأوروبية الخارجية، تجلّى عبر انتقال شركات كثيرة إلى الصين.
”
توقع خبراء أوروبيون أن تصل العلاقة إلى “جبهة باردة”
”
يعتمد الأوروبيون لتحقيق مصالحهم على ثلاث ركائز بدأت بالظهور منذ ربيع 2019؛ تعتبر الصين منافساً وعدواً وشريكاً في الوقت نفسه، بدءاً من الركيزة الأيديولوجية والقيمية، التي تُعدّ مدخلاً لمواجهة الصين من بوابة التصادم مع انتهاكاتها لحقوق الإنسان، تحديداً في إقليم شينجيانغ وهونغ كونغ، وهي انتهاكات متعارضة مع القيم الأوروبية الأساسية في الحقوق والديمقراطية. لكن الاتحاد يتعاون مع الصينيين في القضايا المتعلقة بالمفاوضات الدولية المناخية، على سبيل المثال. أما التنافس بشكل شفاف والتساوي في الشروط، فيفتح الباب أمام الشركات الأوروبية ويخفف العراقيل أمامها، مع مراجعة استثمارات الصين في القارة الأوروبية والتدقيق فيها. ويبدو أن أوروبا التي فشلت قمتها الأخيرة مع الصين، ماضية أكثر لاستخدام بندي حقوق الإنسان و”الورقة البيضاء”، لمواجهتها.
في المقابل، تتجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى بدء حوار يرمي إلى تجاوز خلافاتهما حول الصين، وتأمل واشنطن أن يكون “حافزاً” لاتخاذ تدابير ضد “التهديد” الصيني. وبرز ذلك، في إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، مساء أول من أمس الخميس، قبوله مقترح نظيره الأوروبي جوزيب بوريل الأسبوع الماضي لإطلاق “حوار ثنائي حول الصين” في أعقاب اجتماع أميركي أوروبي لم يفض إلى رؤية مشتركة. وحضّ بومبيو أوروبا بشكل علني في الأيام الأخيرة على رفع نبرتها تجاه الصين، وأن تختار بوضوح “الحرية” بدلاً من “الطغيان”. وقال وزير الخارجية الأميركي خلال مداخلة عبر الإنترنت في مؤتمر افتراضي نظمه “صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة”: “آمل أن أتمكن من الذهاب إلى أوروبا في غضون بضعة أسابيع لإطلاق” هذا الحوار”. وكشف بومبيو أن هذه “الآلية الجديدة” ستسمح بـ”مناقشة مخاوفنا حول موضوع التهديد الذي تمثله الصين على الغرب وقيمنا الديمقراطية المشتركة”. وأضاف “نرغب ألا يكون هذا الحوار، تبديداً للطاقة من دون قرارات، بل أن يكون حافزاً لاتخاذ إجراءات تفضي إلى مقترحات تدابير يمكن أن نتخذها معاً”.
ناصر السهلي
العربي الجديد