ينفي «حزب الله» على لسان أمينه العام، أن يكون مهيمناً على الحياة السياسية اللبنانية، كما ينفي أن تكون هذه الهيمنة هي سبب تصاعد العدائية الأمريكية له.
يستدل السيد حسن نصر الله على ذلك بالقول أنه إذا أعلن حزبه عن وقف مقاتلة إسرائيل أو إشهار السلاح بوجهها، سيغض الأمريكيون الطرف عن سياسته في الداخل اللبناني أو العابرة للحدود في الإقليم. بالمطلق، هذا صحيح.
اذا أعلن الحزب المتبع عقيدياً نظرية ولاية الفقيه، اعتزاله مقاتلة إسرائيل ستتراجع العدائية الأمريكية حياله، بصرف النظر عن واقع حال تغلبيته في الداخل أو حروبيته على جبهات أخرى في الإقليم.
الأمريكيون أساساً لا يقولون غير ذلك. هذا أمر بديهي بالنسبة لهم، لا يتخففون ولا يتحرجون منه. مشكلتهم مع حزب الله في ضدّيته لإسرائيل، وفي موالاته العضوية لإيران.
لو قدّر لهم أن يحصلوا على الحزب نفسه منزوعة ضدّيته الشديدة لإسرائيل وموالاته العضوية لحرس الثورة في إيران، لن تكون لديهم نفس المشكلة معه، وربما فضلوا توكيله على لبنان إذا ما قارنوه بنوعية الأحزاب والقوى الأخرى في هذا البلد.
أي أنهم، كأمريكيين، لا ينظرون الى هذا الحزب من منطلق «طائفي» ضنين مثلا على موقع المسيحيين أو السنّة بازاء الشيعة وحيال الحزب، ولا من منطلق مشغول باله ليلاً ونهارا باستتباب الديمقراطية وحكم القانون في لبنان. هم ضد الحزب لأنه ضد إسرائيل، لكنهم للسبب نفسه ضد هيمنة الحزب على لبنان. لو كان ممكنا بالنسبة لهم أن يعاد انتاج نفس الحزب مسحوبة منه الضدية لإسرائيل أو الموالاة العضوية لإيران لما كانت لديهم نفس المشكلة مع هيمنته أو تغلبيته في الداخل اللبناني، لكن الادارات الأمريكية المتعاقبة قلما أعارت انتباها لهذه الـ»لو». بخلاف شيء من هذه الـ»لو» انتاب بعض البلدان الأوروبية. استحالة هذه الـ»لو» ثابتة أمريكياً، أقلّه الى ان تنقلب الحال في إيران.
لا يمكن افتراض «حزب الله» من نوع مختلف، لكن ما زال ممكناً افتراض جمهورية إسلامية في إيران من نوع مختلف: هذه المعادلة حكمت مطولا، ولا تزال الى حد كبير تحكم، النظرة الأمريكية الى كل من إيران و«حزب الله» ولم تقطع معها حتى إدارة دونالد ترامب الى الآن.
بمعنى آخر، يمكن ان تتخيل واشنطن أن إيران تصالحها، دون أن تتخلى عن ولاية فقيه مطلقة الشرائط، لكن لا يمكن أن تتخيل أن إيران يمكن ان تصالحها، بحرس ثوري مهيمن عليها، ويصدّر تجربته الى بلدان الإقليم. نفس الشيء تماما بالنسبة إلى حزب الله.
لا تلغي كل هذه الاعتبارات السؤال عن درجة هيمنة «حزب الله» على لبنان، والسؤال المتمم له، عن درجة هيمنة إيران على البلد. ينفي الحزب عن نفسه هيمنته على «الحياة السياسية» لكنه لا ينفي تحكمه بقرار الحرب والسلم، هذا في وقت تدور هذه الحياة السياسية، في قسط كبير منها، حول تبعات سلاحه ودوره فيها. فالناس منقسمة بحدة حول هذا السلاح، وتميل الى المكابرة في نفس الوقت على هذا الانقسام كما لو انه ليس انقساما أهليا بامتياز، كما لو انه ليس انقساما بإمكانه تفجير الكيان اللبناني في اي لحظة.
لكن الحزب لا يصنع تغلبيته بالسلاح وحده، بل هو يصنعها بالتحالفات المزمنة من موقعه كحزب مسلح. الانقسام حول السلاح يواجه بشبكة تحالفات يقيمها السلاح، كوحدة وطنية بديلة للوحدة الوطنية الكاملة الممتنعة.
اتساع رقعة وحدة النظرة السلبية تجاه الحزب عند المسيحيين، في مقابل التقاط جبران باسيل للحظة، على أنها لإعلان وقوفه الكامل مع الحزب، في مقابل انتظار ان يؤيده الحزب في وراثة حق الرئاسة
الحزب يتحكم بالداخل اللبناني الى حد كبير من خلال تحالفين مزمنين يحافظ عليهما بجهد وصبر وطول أناة.
ـ الأول هو التحالف «الانترا ـ شيعي» مع حركة أمل، الذي أتى بعد فترة تصادم دموي بين الجماعتين، وهزيمة عسكرية للحركة في مواجهة الحزب في نهايات الحرب الأهلية، وهذا التحالف بين الحزب والحركة، قام على أولية سلاح الحزب «الاستراتيجي» على سلاح الحركة «الفتواتي» في مقابل صدارة نبيه بري في دولة المحاصصة، كرئيس دائم للبرلمان اللبناني.
ـ الثاني هو التحالف بين الحزب وبين تيار الجنرال عون بعد أقل من عام من عودة الأخير من منفاه الباريسي، وانتقاله من المناداة بنزع سلاح الحزب، انفاذا للقرار الدولي 1559، الصادر اواخر العام 2004، والذي كان عون ينسبه لنفسه، الى» التفاهم» في 6 شباط 2006. بخلاف توقعات متسرعة، لم يضرب هذا التفاهم مع حزب الله شعبية عون عند المسيحيين، اما لأن نسبة واسعة منهم اعتبرت في فترة ما بعد الجلاء السوري ان الحزب لا ينازعهم الرئاسة كما يفعل سواه، واما لأنه راج شعور بأن هذا التفاهم يحمي المسيحيين من مغبة الاصطدام الاهلي مع حزب الله نفسه، او من الضياع في دوامة الاستقطاب الشيعي السني، ناهيك عن انتشار لمقولة تحالف الاقليات، لا سيما في السنوات الاولى التي اعقبت انطلاقة الثورة السورية.
بعد 2013 سيزداد مردود هذا التحالف على الحالة العونية، لأنه في ذلك العام لن يتردد الحزب في الموافقة على مشروع القانون الانتخابي الذي طرحته مجموعة «اللقاء الارثوذكسي» والقائمة على مبدأ ان تنتخب كل طائفة نوابها، ما يجعل حصة المسيحيين من نصف نواب البرلمان صافية لهم. هذا في حين عارض هذا الطرح كل من نبيه بري ووليد جنبلاط وسعد الحريري، ما أدى عمليا الى إطلاق رصاصة الرحمة على تحالف 14 آذار. كذلك، منذ تلك الفترة، وحزب الله يلتزم بشكل لا لبس فيه تأييد «حق» العماد عون في الرئاسة الأولى، ما احتاج لثلاث سنوات إضافيات لتكريسه، بعد مسارعة سمير جعجع لإعلان ترشيحه لقطع الطريق امام تقارب سعد الحريري من عون، واضطرار الحريري للالتزام بجعجع كمرشح لـ 14 اذار رغم انه لا يملك أفقا عملانيا للفوز، ثم مسارعة الحريري لترشيح سليمان فرنجية، الموالي لنظام دمشق للخروج من الشغور الرئاسي، و«اقتناع» القوات حينها بعون لقطع الطريق أمام ترشيح سعد الحريري لسليمان فرنجية، ثم «اقتناع» الحريري نفسه بعون مجددا، على أساس تسوية ثنائية «اولترا ـ محاصصة» بينه وبين «ولي العهد» العتيد جبران باسيل، ما لعب دورا حيويا في انسداد الوضع.
يشكل التحالفان، مع بري ومع عون، المعادلة المزدوجة لتحكمية حزب الله في الواقع الداخلي. المفارقة ان تحكميته بحلفائه أنفسهم تزداد كلفة، سواء حين يهدّف أحد حليفيه (جبران باسيل) على الآخر (نبيه بري)، أو حين تزداد الشكوى من داخل بيئة الحزب نفسه من دوام تحالفه مع بري، أو حين تقفز الى الواجهة مسائل خلافية مع العونيين، تتصل مثلا بما يسميه الأخيرون «عودة المبعدين من إسرائيل» (بقايا جيش لحد). يبقى ان كل ذلك قابل للتذليل بالنسبة للحزب، ذلك ان قوته يستمدها من صيانة الثنائي داخل الطائفة الشيعية مع بري وحركة أمل، ومن صيانة تحالفه مع تيار عون في الوسط المسيحي.
لوحده يوفر له ذلك أرجحية سياسية. وهو ما يصعب في الآونة الأخيرة على المريدين اليساريين للحزب فهمه: لماذا يفضل الحزب الخميني عون وباسيل وبري عليهم، وهم إخوته في مقارعة الامبريالية والاستكبار؟ هؤلاء، مثلهم مثل أخصام الحزب المتطرفين، يجدون صعوبة او تأخرا في فهم ان الحزب الخميني على الطريق اللبنانية هو حزب جماهيري وحيوي ومسلح، لكنه ليس حزباً ثوريا، اي، في هذا السياق تحديدا، لا يستطيع أن ينقلب على حليفيه، عون وبري، ولا ان يفكر بتجاوزهما، و«العودة» الى الجماهير العريضة المتخيلة.
في نفس الوقت، لا خوف من ان ينقلب حليفيه الأساسيين عليه، مهما حصل، طالما هو واقف في المعادلة السلاحية الاستراتيجية على قدميه، وطالما المزاج الاكثري الشيعي في صفه. لكن المتغير في الاسبوعين الماضيين هو اتساع رقعة وحدة النظرة السلبية تجاه الحزب عند المسيحيين، في مقابل التقاط جبران باسيل للحظة، على أنها لإعلان وقوفه الكامل مع الحزب، في مقابل انتظار ان يؤيده الحزب في وراثة حق الرئاسة، من عمه عون، ومن بعده. وفي وقت يطلب زعيم الحزب من جمهوره تخزين غضبهم (تجاه الجمهور الغاضب بعد التفجير) لأيام آتية، يطالبه باسيل بتخزين الحق في الرئاسة لديه: اعطني الرئاسة سلفاً، وخذ ما يعجبك ويدهش العالم.
وسام سعادة
القدس العربي