لا أحد في بريطانيا يعلم الأسباب الحقيقية لقرار تأخير صدور التحقيق الذي كُلف السير جون شيلكوت بإجرائه سنة 2009، أي بعد مرور ست سنوات على الغزو الأميركي – البريطاني للعراق.
وقد اختارت حكومة حزب العمال في حينه لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء لمعاونة السير شيلكوت في مهمته الصعبة، هم: السير لورانس فريدمان والسير رودريك لين والبارونة أوشابر أشار.
مطلع هذا الشهر طلب رئيس الوزراء ديفيد كاميرون من رئيس لجنة التحقيق الإسراع في إعلان التحقيق. وحجته أن أهل الضحايا (179 جندياً) يحرجون الحكومة بأسئلتهم المتواصلة حول هذا الموضوع. ويقول المتحدث باسم هذه المجموعة إنها قررت رفع دعوى ضد لجنة التحقيق بهدف إجبارها على تحديد موعد إعلان مضمون التقرير النهائي. وبما أن موعد صدور التحقيق لم يكن ملزماً، فقد استغل السير شيلكوت هذه الثغرة القانونية ليؤخر عملية رفع التقرير إلى الجهات المختصة.
وتدّعي اللجنة، التي شكلها رئيس الوزراء السابق غوردون براون، أنها بحاجة إلى مزيد من الاستجوابات، علماً أنها أجرت أكثر من 150 استجواباً مع شهود عسكريين وسياسيين بينهم رئيس الوزراء السابق توني بلير ووزير الخارجية جاك سترو. كما أنها قامت بمراجعة 150 ألف وثيقة رسمية سرية.
هذا الأسبوع، اشتدت حملات الصحف البريطانية التي اتهمت رئيس اللجنة بالتغطية على الارتكابات السياسية التي اقترفها بلير وعلى إهمال الأسباب الحقيقية التي جاءت بوزير الخارجية جاك سترو خلفاً لروبن كوك!
وكان كوك – الذي اكتشف عملية الخداع والتضليل التي افتعلها جورج بوش الابن مع توني بلير – قد أعلن استقالته أمام مجلس العموم. وبرَّر قراره الجريء بعرض الأساليب الملتوية التي استخدمها رئيس وزراء بريطانيا استجابة لرغبة الرئيس الأميركي. وذُكِر في حينه أن كوك علم أن بيان الوزير الأميركي كولن باول، الذي أدلى به أمام الجمعية العامة، لم يكن أكثر من وثيقة تضليل استخدمها بوش للحصول على ضوء أخضر يسمح بضرب النظام العراقي. علماً أن تقرير مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفى وجود سلاح نووي لدى القوات العراقية. وعلى رغم وضوح ذلك التقرير، فان بوش بالتعاون مع نائبه ديك تشيني، اتخذا قرار الحرب ضد العراق. وانضم إليهما بلير بعد زيارات متواصلة لواشنطن، تمت خلالها عملية التنسيق والتعاون.
الأسبوع الماضي ازدادت حدة الاتهامات بعدما أشارت صحيفة «التايمز» البريطانية إلى رئيس أركان القوات البريطانية السابق الجنرال نيكولاس هوتون، مدعية أن تقرير شيلكوت يعتبره مسؤولاً أيضاً. وبحسب تقويمه، يرى أن صمت العسكريين شجع السياسيين على الاندفاع في التهوّر.
وكتبت جريدة «الدايلي ميل» افتتاحية طالبت فيها بضرورة فتح ملف حرب العراق بكامل تفاصيله المتعلقة بالموقف الأميركي أيضاً. وكان ذلك عبر المبارزة الانتخابية التي جرت بين هيلاري كلينتون وجيب بوش حول أوضاع العراق.
وانتقدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة بشدة أفكار مرشح الحزب الجمهوري جيب بوش، مركزة على شقيقه الرئيس جورج دبليو بوش، الذي اعتبرته المسؤول الأول عن دمار العراق. وقالت في شرح وجهة نظرها أن الأخطاء السياسية التي اقترفها أعادت الفوضى إلى البلاد بعد مرور 12 سنة على حرب أنهت نظام صدام حسين، ثم جاءت بتنظيم «داعش».
والثابت أن مرشحي الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة يريدون الكشف عن الملفات السرية التي تظهر بوضوح تورط الحزب الجمهوري في افتعال حرب العراق.
وفي هذا السياق، ادعت الصحف أن هناك أكثر من ثمانين ملفاً تتضمن تفاصيل الاجتماعات بين بوش وبلير قبل حرب 2003. وكان من الصعب مراجعة محتوياتها لأنها مصنفة بين محظورات «الأمن القومي»!
ولكن هذا الحظر لم يمنع وسائل الإعلام من المطالبة بضرورة الكشف عن أهم الوثائق التي نقلها جورج بوش من البيت الأبيض فور انتهاء ولايته سنة 2009. وهي حالياً موجودة في مكتبته الخاصة، مع كافة المحاضر المتعلقة بالزيارات التي قام بها بلير إلى مزرعة الرئيس الأميركي السابق في منطقة كروفورد خلال سنة 2002. وفي تلك المزرعة تم الاتفاق على غزو مشترك أميركي – بريطاني.
في ردها على هذه المطالب، قالت الإدارة الأميركية إنها تحتفظ بـ 92 وثيقة مسجلة في محادثات كروفورد، بينها 82 وثيقة مصنفة تحت عنوان: «سري جداً… الأمن القومي». وبين تلك الوثائق رسالة شخصية حملها إلى مستشارة الأمن القومي في حينه، كونداليزا رايس، مستشار بلير سير ديفيد ماننغ. وينهي رئيس الوزراء البريطاني رسالته بهذه العبارة: «أنت تعرف جيداً يا جورج، أنني أؤيدك في كل القرارات التي تتخذها».
ويتفق المحللون على إمكان زج هذه الوثائق في معركة الانتخابات الأميركية، الأمر الذي يؤكد رغبة ديفيد كاميرون في ربط تقرير جون شيلكوت بمصير الحزب الديموقراطي الأميركي. لذلك حرصت هيلاري كلينتون على كشف الدور المخادع والمريب، الذي تقاسمه جورج دبليو بوش مع صديقه توني بلير، في تدمير العراق وتفكيك وحدته الوطنية.
وبدلاً من الاعتراف بهذه الحقيقة، أعلن رئيس أركان الجيش الأميركي الجنرال راي اوديرنو أنه يرى في تقسيم العراق حلاً وحيداً لإنهاء الصراع بين السنّة والشيعة. وعلى الفور هاجمه رئيس الوزراء حيدر العبادي متهماً إياه بالجهل وقصر النظر.
واستند الجنرال الأميركي في تحذيره على سلسلة وقائع عاين هو شخصياً تفاعلاتها، عندما كان قائداً لقوات بلاده في العراق بين 2008 و2010. وردّ على انتقاد العبادي بإحالته على بيانات وزارة حقوق الإنسان في الحكومة العراقية (ألغيت مؤخراً) لعل في ذلك ما يدعم وجهة نظره.
وكانت هذه الوزارة قد أعلنت قبل فترة وجيزة عن مقتل نحو خمسة آلاف نسمة، نتيجة أعمال إرهابية جرت في 12 محافظة بين حزيران (يونيو) 2014 وحزيران 2015.
جاء حديث الجنرال الأميركي عقب التظاهرة الضخمة التي احتلت شوارع البصرة، احتجاجاً على انقطاع الكهرباء التي أنفق نوري المالكي على بناء شبكتها مبلغ 45 بليون دولار.
وعندما كان الشارع البغدادي يستعد لدعم إصلاحات العبادي، عبر تظاهرة تضم مختلف شرائح المجتمع، تبنى تنظيم «داعش» تفجير شاحنة مفخخة وسط «مدينة الصدر» أدى إلى مقتل ستين شخصاً وإصابة أكثر من مئة. وجاء هذا التفجير بعد أيام على تبني التنظيم تفجيرين استهدفا مناطق ذات غالبية شيعية، ما أدى إلى قتل ثلاثين شخصاً.
والثابت أن تقسيم العراق على قاعدة طائفية موزعة بين الشيعة والسنّة، لم يكن الخيار الوحيد الذي طرحه العسكريون الأميركيون أمام الإدارة والكونغرس. ففي أول اقتراح عرضه الجنرال جوزيف دان فورد أمام الكونغرس، حرص على رسم مستقبل العراق تحت هيمنة القوتَيْن النافذتين عسكرياً، وهما الشيعة والأكراد.
وقال إن تنظيم «داعش» استقطب أبناء الطائفة السنيّة بعد تمركزه في العراق وسورية، الأمر الذي جعل من الصعب اختراق سلطته من دون مساندة خارجية. خصوصاً بعدما تسلل بواسطة أنصاره الإقليميين والأجانب، إلى المغرب العربي وبلدان أفريقيا. وبحسب التوزيع الديموغرافي، فان «داعش» العراق يضم ثمانين في المئة بين مقاتليه من العراقيين وعشرين في المئة من دول عربية وأجنبية. بينما «داعش» سورية لم يستقطب أكثر من عشرين في المئة من السوريين، في حين عزّز علاقاته بجماعات خارج الحدود، مثل تونس واليمن والسعودية وليبيا وتركيا. إضافة إلى جماعة «أنصار بيت المقدس» التي تقوم بعمليات إرهابية في شبه جزيرة سيناء المصرية.
أما في بداية الغزو الأميركي للعراق فان الحاكم بول بريمر كان محبذاً لإجراء تقسيم ثلاثي يضم الشيعة والسنّة والأكراد. وفي تصوره إن مثل هذه الفيديرالية ستجمع الكيانات الرئيسية الثلاثة مع عاصمة اتحادية هي بغداد. ويبدو أن هذه الصيغة خرجت من التداول بعد إبرام الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني.
ومع أن هذا الاتفاق لم يتعرض للمشاكل الإقليمية الناجمة عن تدخل طهران في شؤون سورية والعراق ولبنان واليمن… إلا أنه من جهة أخرى يطمئن المرشد الإيراني علي خامنئي بأن منطقة الخليج ستصبح خالية من الوجود العسكري الأميركي. علماً أن واشنطن ظلت محتفظة بحاملة طائرات طوال السنوات السبع الماضية.
منتصف هذا الشهر، أعلن الأميرال جون ريتشاردسون، رئيس العمليات البحرية، أن حاملة الطائرات «ثيودور روزفلت» ستنتقل إلى المحيط الهادئ خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. وستحل محلها في منطقة الخليج حاملة الطائرات «هاري ترومن» في آخر فصل الشتاء. علماً أن ريتشاردسون تحدث أمام مجلس الشيوخ عن الضرر البالغ بقدرات الولايات المتحدة في حال خلت مياه الخليج من حاملة طائرات يمكن استخدامها لتسديد ضربات جوية ضد «داعش». وبسبب هذا الفراغ العسكري الذي أقرّه الرئيس باراك أوباما بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، ستصبح قاعدة «انجرليك» في تركيا هي منطلق الهجمات الجوية للطائرات الحربية الأميركية.
من المتوقع أن تصادق إيران والولايات المتحدة على الاتفاق النووي بحلول شهر تشرين الأول (أكتوبر). ثم يُصار إلى رفع العقوبات المفروضة على طهران خلال حلول نيسان (أبريل) المقبل.
مقابل خطوة إيجابية بين دولتين أبعدت بينهما الخلافات منذ سنة 1979، دشّن وزير خارجية بريطانيا، فيليب هاموند، عودة العلاقات مع طهران بإعلان تنسيق الدولتين على ضرورة الانتصار على «داعش».
ويرى المراقبون أن الأهمية الكبرى التي توليها الدول الست الموقعة على الاتفاق النووي تكمن في الاعتراف بشرعية أول نظام ديني في هذا العصر (الجمهورية الإسلامية الإيرانية). لذلك أحدثت الهتافات التي أطلقها المتظاهرون في بغداد امتعاضاً إيرانياً، خصوصاً عند التركيز على المطالبة بـ «دولة مدنية لا دينية».
وربما اختصرت هذه العبارة كل الخلافات السياسية والعقائدية التي تُرجِمَت إلى حروب ونزاعات متواصلة قبل صدام حسين ومن بعده!
سليم نصار
صحيفة الحياة اللندنية