سكّان المناطق السنيّة في العراق الذين عانوا ويلات الحرب ضد تنظيم داعش بكل ما سببته من مآس إنسانية غامرة وما خلّفته من دمار هائل، مازالوا يواجهون التهميش وعدم الاستقرار ويكتوون بنيران إرهاب داعش والميليشيات الشيعية، ويفقدون المزيد من رصيد ثقتهم بالدولة العراقية، والإيمان بجدوى الانتماء إليها والعيش تحت رايتها.
بغداد – وضعت موجة العنف المتصاعدة التي أطلقتها مؤخّرا ميليشيات شيعية ضدّ سكان مناطق ذات غالبية سنّية، العراق مجدّدا أمام تحدّي الحفاظ على وحدة أراضيه، في ظلّ تراجع ثقة سكّان تلك المناطق بالدولة التي تقودها بشكل أساسي أحزاب شيعية، وتشارك ميليشيات طائفية في صياغة قرارها الأمني وتنفيذه على الأرض.
وحذّر السياسي العراقي مشعان الجبوري من أن “سلوك الميليشيات الولائية” في مناطق شمال وغرب البلاد قد يدفع السكان هناك إلى المطالبة بالتقسيم.
ويستخدم مصطلح “الولاء” لوصف الأحزاب والميليشيات العراقية التي تأتمر بأمر الولي الفقيه علي خامنئي في إيران.
ومنذ استعادة محافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى التي يغلب السنّة على سكانها من تنظيم داعش العام 2017، تحافظ الميليشيات الشيعية التابعة لإيران على حضور قوي فيها بذريعة المشاركة في مسك الملف الأمني.
ويقول الجبوري، وهو نائب سابق في البرلمان العراقي عن محافظة صلاح الدين، إن الميليشيات الشيعية تتصرف بشكل تعسفي مع السكان السنّة، وتطالبهم بتصاريح أمنية تثبت عدم صلتهم بداعش للسماح لهم بالبقاء في مناطقهم.
ويضيف أن متطلبات التصاريح الأمنية تتغير باستمرار وعلى السكان أن يستجيبوا لها بشكل دوري، مشيرا إلى أن الميليشيات فرضت التصريح الأمني حتى على المتطوعين السنّة ضمن الحشد الشعبي الذي يقوده الشيعة.
ويعتبر الجبوري أنّ الميليشيات الولائية تتحالف مع السياسيين السنّة الفاسدين وتمكّنهم من حكم مناطقهم، مشيرا إلى أن الميليشيات مكّنت محافظ صلاح الدين الأسبق أحمد الجبوري أبومازن من الهيمنة على محافظته رغم وجود 234 قضية مرفوعة ضده في هيئة النزاهة، مؤكّدا أن هذه السلوكات التعسفية لم تقع حتى من قبل نظام البعث في العراق.
ويخلص إلى القول إنّ المزاج السني، بسبب هذه السلوكيات، يجنح نحو الخلاص العاجل، بأي شكل من الأشكال، من الهيمنة الشيعية الإيرانية المتعسفة، مضيفا أن “السنة في العراق يقبلون بإنشاء الأقاليم أو إنشاء الدولة السنيّة أو الالتحاق بأي مشروع للخلاص من الميليشيات الموالية لإيران”.
وترسّخت فكرة الإقليم السنّي في العراق خلال فترة الحرب ضدّ تنظيم داعش والتي دارت في المناطق السنية وألحقت بها أضرارا بشرية ومادية جسيمة، وظل سكانها بعد نهاية الحرب يعانون تغوّل الميليشيات الشيعية التي شاركت في المعارك واستولت على بعض المناطق.
ويرى سياسيون عراقيون سنّة أنّ مناطقهم يجب أن تأخذ زمام أمورها الأمنية والإدارية والاقتصادية بيدها. ومخافة الاتهام بالسعي إلى تقسيم البلاد على أساس طائفي يدفع هؤلاء بفكرة إنشاء أقاليم على أساس المحافظات وحدودها.
ويعبّر عن ذلك رئيس البرلمان العراقي الأسبق أسامة النجيفي بالقول إنّ “تحويل المحافظات إلى أقاليم حل دستوري يتوافق مع رغبة الشعب العراقي”، موضّحا أن “الأقلمة” لا تعني التقسيم، ومؤكّدا “تقسيم العراق لا نقبله ولا نتصور أن يكون الحل لعراق المستقبل، الذي يجب أن يبقى بلدا واحد”.
يستدرك بالقول “لكن هناك مراجعة لتجربة الحكم المركزي الماضية في العراق، والهيمنة على كل مفاصل الحياة في المحافظات. والحل هو أن تتحول المحافظات إلى أقاليم بحدودها الإدارية، وليس على أسس طائفية، وأن تتمتع بصلاحيات واسعة وهو أمر دستوري ويتفق مع رغبة الشعب العراقي”.
ورغم حذر سنّة العراق في طرح قضية الأقاليم، إلاّ أن سياسيين عراقيين يقولون إنّ فكرة إنشاء إقليم سنّي قائمة في أذهان بعض القيادات السياسية السنّية وإنّها تحظى بدعم خارجي.
واتّهم السياسي العراقي عزت الشابندر رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، ضمنا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة للدفع بفكرة الإقليم السني. وقال معلّقا على زيارة الحلبوسي للولايات المتّحدة في شهر مارس الماضي إن “نائب الرئيس الأميركي مايك بنس بحث مع شخصية عراقية سبُل الإبقاء على القوات الأميركية في العراق وزيادة عديدها بهدف مراقبة الأنشطة الإيرانية”، مشيرا إلى أن الخيار البديل الذي نوقش خلال الاجتماع يتضمن “التوجه إلى كونفيدرالية المنطقة الغربية بدءا بمحافظة الأنبار”.
ولا تخصّ قضيّة الأقاليم في العراق أبناء الطائفة السنية وحدهم، كما أنّها لا تُطرح من منطلق طائفي وعرقي فحسب، ولكن في نطاق جهوي مناطقي أيضا، حيث يرى عدد كبير من سكان محافظة البصرة الغنية بالنفط في جنوب العراق، أن تحويل محافظتهم إلى إقليم هو الحلّ لرفع “الظلم” عنهم والذي يتمثّل حسب رؤيتهم في أن المحافظة تمدّ العراق بقسم كبير من موارده المالية لكنها لا تنال أي نصيب من التنمية وتعاني من تردّي الخدمات وتفشي الفقر والبطالة.
وصوّت مجلس محافظة البصرة سنة 2019 لصالح تحويلها إلى إقليم مستقل إداريا عن الحكومة الاتحادية في بغداد، لكنّ الخطوة لقيت معارضة من داخل العائلة السياسية الشيعية التي لا ترغب في تجزئة ما تعتبره خزّانها البشري.
وحذّر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من مخاطر تشكيل الأقاليم في العراق، معتبرا في تغريدة على تويتر أنّ “الأقاليم إرادة شعب مظلوم يريد إنهاء معاناته لكنّها ليست حلا، فمسؤولو الإقليم سيسهل عليهم سرقتكم وسيمعنون في الفساد والظلم وسيتسلط علينا وعليكم الطامعون من الداخل والخارج فينعموا بخيراتكم بصورة أكثر ويستضعفونكم فيسهل احتلالكم”. وأضاف متوّجها للعراقيين بالقول “حافظوا على عراقكم واحدا موحدا أرضا وشعبا”.
وفي شمال العراق، أطلقت مجموعة من النشطاء تصف نفسها بالمستقلة أوائل سنة 2019 مباردة للترويج لفكرة تحويل محافظة نينوى بشمال العراق إلى إقليم مركزه مدينة الموصل.
وقال فارس حازم الجويجاتي أحد مطلقي المبادرة “إنّ نينوى، ومنذ تأسيس الدولة العراقية أدّت دورا رياديا وتاريخيا في الدفاع عن وحدة وسيادة العراق وازدهاره علميا واقتصاديا لكنها نتيجة لاعتماد أسلوب الحكم المركزي لإدارتها الذي لم يتناسب مع طابعها الجيوسياسي وتكوينها المجتمعي ضاعف من أضرار السياسات الخاطئة التي مورست بحقّها من قبل الحكومات السابقة حتى أصبحت محافظة منكوبة بلا حدود”.
وأضاف “لذلك بادرنا نحن مجموعة من المتطوعين المستقلين بعيدا عن السياسيين وعن الأحزاب وكذلك بعيدا عن كافة وسائل الإعلام، وبإمكانياتنا الشخصية البسيطة وبتضافر جهود رموز من كافة مكونات مجتمع نينوى، وقررنا المساهمة في إنقاذ المحافظة مما هي عليه من أوضاع مأساوية خطيرة جدا ومعالجتها بما يخدم وحدة وسيادة العراق وبما يساهم في ازدهاره علميا واقتصاديا، ولجأنا إلى الدستور العراقي واعتمدنا على مواده الخاصة بتكوين الإقليم”.
ويرى الجبوري أن المكون السني هو أشد المدافعين عن وحدة العراق، لكن سلوكيات الميليشيات المتنفذة في جسد الدولة دفعت أبناء المناطق الغربية إلى النفور الشديد.
ويعتقد الجبوري أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يقف ضد السلوكيات التعسفية للميليشيات الموالية لإيران في المناطق السنية، لكنه لا يستطيع إيقافها.
ويقول مراقبون إن انشغال السلطة الشيعية في العراق بالمشاكل المركزية في بغداد خلال الأعوام الثلاثة الماضية، سمح لأطراف عديدة بالتغول في الأطراف، كما يحدث مع الميليشيات في المناطق الغربية.
وتقول مصادر محلية إن الميليشيات الموالية لإيران تتحكم بالعديد من الخطوط الاقتصادية في المناطق السنية، وتتدخل في تنصيب وعزل المسؤولين وتؤثر في عمليات إحالة المشاريع الخدمية على الشركات المنفذة.
لكن تحالف الفتح النيابي، الذي يضم الممثلين السياسيين للميليشيات الموالية لإيران في مجلس النواب، يعتقد أن بعض الأطراف السياسية السنية تحاول انتهاز فرصة ضعف المركز، لإحياء مشاريعها الانفصالية.
ويعتقد التحالف المقرب من إيران أنّ دولا عربية وأجنبية تشجّع سنّة العراق على الانفصال في دولة مستقلة أو إنشاء إقليم شبه مستقل، على غرار الإقليم الكردي في شمال البلاد.
وتعهد نواب في تحالف الفتح الممثّل السياسي لميليشيات الحشد الشعبي بالتصدي لخطط التقسيم والأقلمة، وسط شكوك في قدرة أي طرف داخلي على منع هذا النوع من التحولات، في حال دعمه من الخارج.
العرب