تسعى الدول الغنية لتمكين مواطنيها من التطعيم ضد الفايروس وهذا أمر غير قابل للنقاش. لكن لا بد من طريقة للتصرف بحكمة وعقلانية تقطع مع عقلية مراكمة اللقاحات وتخزينها، وكذلك التفكير في وضع سياسة تكون قادرة على القضاء على الوباء بشكل أسرع في كل مكان في الكوكب، خاصة أن مستقبل جيل كامل في البلدان النامية يتوقف على وصول اللقاحات في أسرع وقت.
لندن – يتعلّم الفايروس المتحوّل للعثور على نقاط ضعف في جهاز المناعة لدينا لينتشر بشكل أسرع، لكن رغم ذلك فالمجتمع العالمي لا يتعلم من أخطاء العام الماضي. إنه لا يفهم مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يعني أننا بحاجة إلى التأكد من أن اللقاحات متاحة، وبأسعار معقولة، للجميع في العالم. لأن عدم الإنصاف في توزيع اللقاحات يعني بقاء فايروس كورونا معنا، وأنه سيتحول وسيجد طريقه ما مرة أخرى للنفاذ إلى أجسادنا.
في منتصف شهر يناير الماضي، أشار 2800 عالم من جميع أنحاء العالم في تصريحات جمعتها منظمة الصحة العالمية، إلى مدى اتساع فجوة اللقاح بين المجتمعات الغنية والفقيرة. وحتى الآن تم إعطاء حوالي 30 مليون جرعة لقاح على مستوى العالم، معظمها ذهبت إلى البلدان المتقدمة.
لا يعد الافتقار إلى المال فقط جوهر المشكلة بل أيضا الافتقار التام إلى التعاون العلمي. هذا هو الدرس الثاني الذي يحتاج العالم إلى أن يتعلمه في هذه “الحرب”.
وسط أي جائحة، يعتبر الوقت رفاهية لا يستطيع العالم تحملها. وتعدّ جائحة كوفيد – 19 أكبر تحدٍّ للجيل الحالي. ولأشهر، بينما عانى الملايين من الأشخاص وماتوا بسبب هذا المرض الفتاك، كان العالم ينتظر بفارغ الصبر لقاحات فعالة. الآن بعد أن بدأوا أخيرا في طرحها، طفت على السطح العديد من التحديات الصارخة، لاسيما في ما يتعلق بالإنصاف في توزيع اللقاحات.
وفي العشرات من البلدان ذات الدخل المنخفض، يمكن لشخص واحد فقط من بين كل عشرة أن يأمل في الحصول على لقاح فايروس كورونا بحلول نهاية هذا العام، وهذا لا يقترب حتى من العدد المطلوب للتطعيم الشامل للفئات المعرّضة للخطر. في المقابل، اشترت الدول الغنية ما يكفي من جرعات لقاح كوفيد – 19 لتطعيم سكانها بالكامل بحلول نهاية العام 2021.
تمتلك الدول الغنية التي تمثل 14 في المئة فقط من سكان العالم أكثر من نصف اللقاحات. وهذا يعني أن الأشخاص الأكثر ضعفا في العالم، بمن في ذلك اللاجئون والفئات المهمّشة والأشخاص الذين يعيشون في مناطق النزاع، يتعرضون إلى خطر التخلف عن الركب ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة للتأكد من تصنيع جرعات كافية.
يذكر أن في البلدان الغنية نفسها لم تحصل فيها المجتمعات الملونة الفقيرة على نفس القدر من الوصول إلى اللقاح، على الرغم من تأثرها بشكل غير متناسب بفايروس كورونا. فمثلا تلقى سكان نيويورك البيض ما يقرب من نصف جميع اللقاحات المتاحة حتى الآن، في حين تم إعطاء السكان السود واللاتينيين 11 في المئة فقط و15 في المئة على التوالي.
وحذّر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس من أن “النزعة القومية في توزيع لقاحات الوقاية من فايروس كورونا تضرّ بالجميع”، مشيرا إلى أن “ضعف التعاون بين الدول يشكل عائقا رئيسيا أمام تحقيق الانتشار العالمي للتطعيم الضروري لإنهاء الوباء”.
وقال غيبريسوس، وفقا لما نقلت عنه مجلة “فورين بوليسي”، إنه “على الرغم من العدد المتزايد لخيارات اللقاح، فإن قدرة التصنيع الحالية لا تلبي سوى القليل من المطلوب على مستوى العالم”.
العديد من البلدان النامية لن يتم تطعيم سكانها بالكامل حتى العام 2024، مما يعني أنه سيكون أمام الفايروس سنوات لينتشر ويتحول
وأشار إلى أن “عدم السماح لغالبية سكان العالم بالتطعيم لن يؤدي إلى استمرار المرض والوفيات التي لا داعي لها فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى ظهور طفرات فايروسية جديدة مع استمرار انتشار كورونا وسط السكان غير المحميين”.
وقالت منظمة الصحة العالمية، الأربعاء الماضي، إن حالات الإصابة بكوفيد – 19 آخذة في الانخفاض، لكن التوزيع غير المتكافئ للقاحات المنقذة للحياة يمكن أن يطيل أمد حياة الفايروس ويترك البلدان النامية متأخرة أكثر.
ووفقا لأحدث تقرير عن الوضع الوبائي لمنظمة الصحة العالمية فقد تم الإبلاغ عن 3.7 مليون حالة إصابة جديدة بفايروس كورونا عالميا خلال الأسبوع المنتهي في 31 يناير، أي بانخفاض 13 في المئة مقارنة في الأسبوع السابق. وسجلت وفيات كوفيد – 19، التي تأخرت عن ظهور حالات جديدة بأسابيع قليلة، انخفاضا متواضعا بنسبة 1 في المئة خلال هذا الأسبوع.
وقال الدكتور مايك رايان، المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية بمنظمة الصحة العالمية، إن هذه أخبار سارة بالنظر إلى أنه من المتوقع أن تتجاوز الحالات العالمية 5.5 مليون حالة أسبوعيا، لكن أكثر من 3 ملايين إصابة جديدة “لا تزال عددا هائلا من الأشخاص”.
ومع ذلك، لم تُمنح جميع البلدان إمكانية متساوية للحصول على الأدوية المنقذة للحياة.
وقال رايان إن هذه مشكلة لأن اللقاحات ستسمح في نهاية المطاف للدول بإعادة فتح مجتمعاتها دون المخاطرة بزيادة حالات دخول المستشفيات والوفيات بسبب الفايروس، لكنه استدرك أن هذا لن يكون ممكنا حتى “نتمكن من تقديم الحد الأدنى من جرعات اللقاح لجميع البلدان”.
وأضاف رايان “إذا أردنا أن تنفتح مجتمعاتنا، وإذا أردنا أن نكون مستعدين لنستعيد حياتنا الطبيعية شيئا فشيئا، فعلينا أن نكون منصفين بشأن الطريقة التي نوزّع بها اللقاحات لأن ما يحصل حاليا غير عادل.”
ويقول فريدريك كريستنسن، الرجل الثاني في الائتلاف العالمي المعني بابتكارات التأهب لمواجهة الأوبئة، “إنني قلق للغاية انتشرت حاليا في أرجاء العالم صور تظهر سكان البلدان الغنية يتلقون التطعيم بينما لا يحدث شيء في البلدان النامية، هذه مشكلة كبيرة جدا”.
ويفيد شتيفان إكسو ـ كرايشر، مدير فرع منظمة التنمية “وان” في ألمانيا، بأنه “إذا أردنا فعلا إنهاء الجائحة حقا وبسرعة، علينا أن ندرك أولا أننا لسنا في سباق ضد بعضنا البعض، بل ضد الفايروس. وهذا العمل غير المنسق يقود عالميا إلى أن الجائحة قد تطول وتزيد من خطر ظهور سلالات متحوّرة جديدة للفايروس”. ويضيف “هذا يمكن أن تكون له عواقب واسعة. فاللقاحات قد لا تعود تنفع ضد الفيروسات المتحورة. إنه سباق ضد الزمن”.
يقول باحثون من جامعة ديوك إن العديد من البلدان النامية لن يتم تطعيم سكانها بالكامل حتى العام 2024، مما يعني أنه سيكون أمام الفايروس سنوات لينتشر ويتحول. وترجح الدراسات أن البلدان النامية ستخسر “عقدا من الزمن” إذا تخلفت عن ركب التلقيح، حتى أن وزير المالية الغاني كين أوفوري – أتا يشبّه الأمر بـ”الإبحار في شلالات نياجرا في زورق أفريقي”.
وفي العام الماضي، انكمش اقتصاد المنطقة الأفريقية مثلا لأول مرة منذ 25 عاما. ووقع حوالي 32 مليون شخص في فقر مدقع (يكسبون أقل من 1.90 دولار في اليوم)، مما أدى إلى محو خمس سنوات من التقدم، كما يقول البنك الدولي. كما فقد الملايين من الآخرين مكانهم في الطبقة الوسطى الناشئة. وفيما يتوقع العالم الغني انتعاشا سريعا بعد اللقاحات، ستستمر الآثار المدمّرة للوباء في الدول النامية، مما يتسبب في ضرر على المدى القصير والمتوسط والطويل.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أنه في العام 2021 ستكون القارة الأفريقية المنطقة الرئيسية الأبطأ نموا.
وفي العديد من البلدان الأخرى، سوف يستغرق الناتج المحلي الإجمالي للفرد عدة سنوات للعودة إلى ما كان عليه قبل بروز جائحة كورنا.
التحول الحميد في أفريقيا معرض للخطر إذا لم تصل اللقاحات في وقتها، إذ يعني ذلك تعطيل تعليم ملايين الفتيات
ويذكر أن إغلاق المدارس في البلدان النامية على نطاق واسع سوف يترك ندوبا دائمة على كل المستويات، خاصة أن الشباب يمثلون أغلبية السكان فيها. وبحلول العام 2035، سيضاف في القارة الأفريقية المزيد من الأشخاص في سن العمل أكثر من أي مكان آخر مجتمعين.
إن التعافي البطيء الطويل سيجعل من الصعب على أكبر جيل على الإطلاق من الشباب العثور على وظائف. وقد يكون الضرر الناجم عن الإغلاق واسع النطاق للمدارس أسوأ. ويمكن أن نلمح هذا في كورجوتشو، أحد الأحياء الفقيرة في نيروبي. وخارج منزل غريس إيميلويو البالغة من العمر 13 عاما، يوجد مكب نفايات. وكل صباح، بدلا من الذهاب إلى المدرسة كما فعلت قبل الوباء، تستيقظ إميلويو، تصلي، ثم تشق طريقها عبر الرائحة الكريهة وصيحات الرجال إلى قمة المكب حيث تجمع المواد البلاستيكية والمعادن لبيعها.
وتبدو إميلويو وشقيقها نورالدين توفيق البالغ من العمر عشر سنوات من بين 40 في المئة من الطلاب في أفريقيا الذين لم يعودوا إلى الدراسة. والدة إميلويو، مورين كاساندي، كانت تكسب قوت يومها في السابق من الانتقال من منزل إلى منزل للتنظيف. لكن أثناء الوباء، اختارت العديد من العائلات عدم الاستعانة بخبرات منزلية خوفا من الإصابة.
وفي العام الماضي، أغلقت بلدان أفريقية، بينها بلدان عربية فقيرة، الفصول الدراسية لمدة تسعة أشهر.
ويتم عرض قصص مماثلة في أماكن أخرى عبر القارة. ويعيش جميع طلاب أفريقيا البالغ عددهم 253 مليونا تقريبا في بلدان أغلقت المدارس في وقت ما.ويعترف البعض بأنه عندما يترك الأطفال المدرسة ويتوجهون إلى العمل، فإن ذلك يساعد العائلات على المدى القصير. لكنه يفسد الآفاق المستقبلية لهؤلاء الصغار بالتأكيد.
وكان البنك الدولي حذّر من أن حوالي سبعة أشهر من الإغلاق قد يكلف الأطفال الأفارقة 500 مليار دولار من أرباحهم مدى الحياة.
ويمكن أن تستمر الآثار إلى أكثر من جيل. سيكون معظم المتسربين من الفتيات، لأن العديد من العائلات تفضل إرسال الذكور إلى المدرسة. أما الفتيات اللائي ينقطعن عن الدراسة لن يكسبن أقل فحسب بل من المحتمل أيضا أن يبدأن في إنجاب الأطفال في وقت مبكر.
وتعتبر العلاقة بين تعليم الإناث وحجم الأسرة قوية في كل مكان. وتميل النساء اللائي لم يتلقين تعليما رسميا إلى إنجاب حوالي ستة أطفال، في حين أن النساء الحاصلات على تعليم ثانوي لديهن طفلان تقريبا. هذا مهمّ لأن الأمهات الأفضل تعليما يملن إلى الإسراف على تعليم أبنائهن.
وقبل جائحة كوفيد – 19، كانت أفريقيا في منتصف تحول ديموغرافي. كانت الفتيات يذهبن إلى المدرسة لفترة أطول. وتوقع فولفجانغ لوتز من مركز فيتغنشتاين للديموغرافيا ورأس المال البشري العالمي في فيينا، أن هذا سيُترجم قريبا إلى عائلات أصغر. هذا التحول الحميد معرض للخطر إذا لم تصل اللقاحات في الوقت المناسب، إذ يعني ذلك تعطيل تعليم الكثير من الفتيات الصغيرات.
لذا فإن عدم الإنصاف في توزيع اللقاحات يعني أن المخاطر كبيرة. ومن خلال الإضرار بصحتهم وثرواتهم وتعليمهم، يعرض فايروس كورونا مستقبل أكبر جيل على الإطلاق إلى الخطر.
العرب