كانت زيارة البابا فرنسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية للعراق تاريخية وناجحة، وقد قوبلت هذه الزيارة بحفاوة كبيرة بدأها رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي أولًا، عبر “تويتر”، قائلًا “يستقبل العراق شعباً وحكومة قداسة البابا فرنسيس، ليؤكد عمق الأواصر الإنسانية التي كانت بلاد النهرين وما زالت وستبقى محطتها التاريخية للقاء الأديان والأفكار والقيم البشرية المشتركة”. واستكمل حفاوته عندما كان في مقدمة مستقبلي البابا فرنسيس عند درج الطائرة.
وشمل استقبال مصطفى الكاظمي للبابا فرنسيس استعراض للثقافات والتراث العراقي منها ” والدبكة العراقية والجالغي البغدادي ورفع السيوف العربية” و شفنة طابع مميز وحلو نتمنى انه يتطبق دائما على أرض العراق الي افتقر لسنوات عديدة للوحدة و التعايش ويدوم السلام والتأخي بين كل الأديان والقوميات.
كما استقبل برهم صالح رئيس جمهورية العراق في قصر السلام ببغداد البابا فرنسيس، وبحسب معلومات خاصة حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، مفادها ” إشادة بابا الفاتيكان بحفاوة الاستقبال في مطار بغداد من قبل رئيس الوزراء وعبر للرئيس عن سعادته بمظاهر الاسقبال.
والتقى البابا فرنسيس برئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي على انفراد في قصر السلام بالعاصمة بغداد، على الرغم من أن هذا اللقاء لم يكن مدرجا ضمن جدول أعمال الزيارة، لكن رئيس الجمهورية برهم صالح تمكن من ترتيب هذا اللقاء الفوري، وهذا أمر يحسب لرئيس الجمهورية العراق.
ومثّل لقاء بابا الفاتيكان والمرجع الشيعي البارز علي السيستاني -في محافظة النجف أمس السبت- علامة فارقة في أجواء الزيارة، وسط آمال بأن يشجع اللقاء الحوار الديني ويرسخ التعايش بين مكونات الشعب العراقي، كما زار البابا مدينة أور الأثرية في محافظة ذي قار جنوبي العراق، حيث أقام فيها “صلاة الأديان” بحضور ممثلين عن مختلف المذاهب والقوميات، وزار أربيل وانتقل بعدها إلى الموصل، حيث زار الكنائس هناك.
وشهدت جولة البابا فرنسيس في المدن العراقية من بغداد إلى الموصل إلى إربيل كثيراً من المحطات المهمة، وخرجت في ست خلاصات :
1- الفرح ممكن في العراق:
لسنوات طويلة اعتادت وسائل الإعلام على نقل صور الموت والدمار والتفجيرات والدماء والسبي والخطف من العراق. للمرّة الأولى منذ عقود، وبمناسبة زيارة البابا فرنسيس إلى بلاد ما بين النهرين، رأى العالم العراقيين بصورة جديدة: يدبكون، يزغردون، يهللون، ويرقصون في الشوارع. بين استقبال البابا بدبكة الجوبي العراقية التقليدية في المطار، وبين مشاهد الأطفال يرقصون في الشوارع بأزياء تشبه ملابس العيد، وبين الزغاريد التي رافقت خطوات الحبر الأعظم أينما حلّ، ظهر أنّ الفرح ممكن في هذه البلاد، ولو كان ذلك وسط الدمار.
2- حبّ رغم التباعد
كأن العالم بأسره كان يحتاج لمشاهد اللقاء والتواصل في بغداد وأور والموصل واربيل، بعد عام من العزلة، والتباعد. رغم محاولة الحفاظ قدر الإمكان على متطلبات الوقاية الصحية، كان الناس في الشوارع، يندفعون لملاقاة بعضهم البعض، ويقتربون قدر الإمكان من البابا. والتقى فرنسيس بالأطفال، بطلاب المدارس، بعائلات الناجين من مجازر، وتحدّث إلى والد الطفل الغريق ايلان كردي، وقال له إن موت ابنه دليل على “حضارة تحتضر”.
في أربيل، جمع البابا في صلاة القداس الأحد الآلاف داخل مدرج مفتوح، في تجمّع نادر لمصلين بهذه الأعداد الكبرى بعد انتشار وباء كورونا الذي تسبب بوقف معظم الطقوس الدينية.
وفي لقائه مع الصحافيين على طائرة العودة من بغداد إلى روما، تحدث البابا عن تأثره لدى زيارته الموصل وقره قوش. وقال إنه لم يتوقع رؤية هذا الدمار في الموصل، مشيراً إلى أن وحشية الإنسان لا تصدق.
ولفت إلى أنه شاهد الأعداد الكبيرة من الشبان والشابات اليافعين في العراق الذين ينظرون بأعين الأمل إلى المستقبل، ومعظمهم قد يفكرون بالهجرة. وأشار البابا إلى الحق في الهجرة وعدم الهجرة موضحا أن هؤلاء الأشخاص لا يتمتعون بأي من هذين الحقين.
3- سياسة الأخوة
في حديثه إلى الصحافيين على طائرة العودة إلى روما الاثنين، قال البابا إن البعض قد يتهمه “بالهرطقة” لأنّه يلتقي مع زعماء العالم الإسلامي، ومن بينهم المرجع الشيعي الأكبر آية الله علي السيستاني.
وأضاف إن لقاءاته وزياراته إلى دول العالم والشخصيات المختلفة لا تأتي من أهواء شخصية، بل بعد صلاة وتفكير ونقاش، مشدداً على أهمية الحوار بين الأديان، ومفاهيم الأخوة.
وعن زيارته للنجف قال “إنه شعر بالحاجة لأن يقوم بزيارة حج وتوبة، وبلقاء رجل حكيم، رجل الله. ولفت إلى أن هذا الأخير تصرف باحترام كبير. وشدد البابا بعدها على أهمية أن يعيش الناس حياتهم ويمارسوا الأخوة بشكل ينسجم مع إيمانهم”.
ثبتت الزيارة إلى العراق سياسة لدى الفاتيكان بالتفكير نحو بناء أسس متينة للحوار في المستقبل، والابتعاد عن سياسة العزلة ورفض الآخر، سواء من خلال اللقاء بالسيستاني، أو بالاجتماع مع ممثلي الطوائف العراقية كافة في أور، مسقط رأس النبي إبراهيم.
وخلال لقائه بأهل ضحايا المجازر، شدد على أهمية المغفرة، ونبذ الانتقام، كقيمة أساسية لإعادة اللحمة للمجتمع.
4- تثبيت المسيحيين
صلّى البابا فرنسيس في ساحة حوش البيعة في مدينة الموصل، على تقاطع حي دمره تنظيم ما يعرف “بالدولة الإسلامية”، وتعيد اليونسكو إعماره.
بين ركام جامع النوري وكنيسة الساعة وكنيسة الطاهرة، تحدث عن أنّ افراغ العراق من مواطنيه المسيحيين ضرر جسيم ليس عليهم فقط، بل على النسيج الاجتماعي بكامله.
من خلال لقائه بالشخصيات السياسية العراقية من بغداد إلى كردستان، أعطى البابا دفعاً معنوياً كبيراً للقيادات الكنسية العراقية التي سعت منذ سنوات لتحقيق حلم زيارته إلى بلادها.
أسئلة كثيرة تطرح حول كيفية ترجمة هذا الدعم المعنوي على أرض الواقع، وكيفية إعادة المهجرين إلى بيوتهم، بعد سنوات من الحروب وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة، لكن زيارة البابا مفادها أن المسيحيين في العراق من مكوناته القديمة جداً، وأن حمايتهم يجب أن تكون أولوية.
بالنسبة للكثير من المعلقين العراقيين على مواقع التواصل، كان كافياً أن يعيد أسقف روما تكريس تمثال لمريم العذراء دمره عناصر داعش في قره قوش، لكي يشعروا بشيء من رد الاعتبار.
سلطت البابا زيارة فرنسيس الضوء على أوضاع المسيحيين العرب في الشرق الأوسط، حالهم ومآلهم، وقد يكون الهروب إلى الماضي المجيد منفذاً للتنفيس عن هموم الحاضر، لا سيما عند مسيحي العراق، الذين لم يتبق منهم إلا نحو ثلاثمائة ألف، بعدما كانوا نحو مليون ونصف المليون مع بداية الألفية الجديدة.
كان العراق شاهداً أميناً على الدور الحضاري الذي لعبه النصارى العرب، ضمن مكون الحضارة العربية الإسلامية، ففي زمن بيت الحكمة، وخلافة المأمون ابن هارون الرشيد، ترجم السريان العرب علوم وآداب اليونانيين القدامى إلى العربية، وقد وجد من بينهم الفلاسفة والمفكرين، الأطباء والصيادلة، الوزراء والمؤتمنين على أحوال البلاد، فكان المعين الحضاري العربي الإسلامي، ترجمة لفكر المواطنة، وهو أمر ينبغي النظر إليه بعين ثاقبة في حاضرات أيام أمة إذا عادت إلى الوراء، ستجد مستقبلها كائناً هناك.
5- دعم لنساء العراق
قال الصحافيون الذين رافقوا البابا في رحلته إلى بغداد، إنه اطلع قبل وصوله على تقارير حول كيفية “المتاجرة” بالنساء قبل سنوات، خلال سيطرة داعش على جزء من المدن العراقية، ما أثّر به كثيراً.
وأعلن أنّه قبل أن يقرر زيارة العراق قرأ كتاب الشابة الأيزيدية ناديا مراد، حول قصة سبيها، وكان من بين الدوافع الأساسية لقراره زيارة العراق.
لذلك خصص جزءاً من كلمته في كنيسة الطاهرة الكبرى في قره قوش للحديث عنهنّ، وقال: “أودّ أن أشكر من عمق قلبي كلّ الأمهات والنساء في هذا البلد، النساء الشجاعات اللواتي يواصلن إعطاء الحياة بالرّغم من الانتهاكات التي يتعرّضن لها والجراحات التي تصيبهنّ. فلتحترم النساء وليمنحن الحماية! ليحظين بالاهتمام ويمنحن الفرص”.
وخلال توديعه رئيس العراق، برهم صالح، وزوجته في مطار بغداد صباح الاثنين، وبمناسبة يوم النساء العالمي، قيل للبابا هناك حاجة لإحياء “يوم عالمي للاحتفاء بالرجال”، فأجاب “الرجال محتفى بهم كلّ يوم”، بحسب ما نقل الصحافيون المرافقون للوفد البابوي.
6- فرنسيس قد يعود إلى المنطقة
في حديثه مع الصحافيين خلال عودته إلى روما قال البابا إنه قد يزور لبنان، تلبية لدعوة من البطريرك الراعي، وقال إنّ هذا البلد يواجه “أزمة حياة”، مثنياً على احتضانه للنازحين.
كما تحدث عن زيارة الأرجنتين والأوروغواي والبرازيل عندما ستتاح الفرصة، ولكنه أشار إلى أنه شعر بالتعب خلال هذه الزيارة أكثر من سابقاتها.
في رد على سؤال أحد الصحفيين بشأن إمكانية القيام بزيارة رسولية إلى سوريا، قال البابا إنه في الوقت الراهن يفكر بزيارة لبنان، ولكنه عبر عن “قربه من سوريا الحبيبة والجريحة التي يحملها في قلبه”.
نجح العراق في أن يظهر وجهاً حضارياً لشعب تعود جذوره إلى بضعة آلاف من السنين، لم يصدر العراق منصات الصواريخ الانتقامية المتنقلة، ولا كان موضع تخطيط لميليشيات كواتم الصوت لاغتيال المعارضين وإسكات أصحاب الرأي والقلم، بل كان عراق بيت الحكمة، حين كانت الأفكار تقدر بالذهب.
غادر البابا بغداد، التي عاد اليها من كلّ منطقة عراقية زارها، وبقيت التحديات. سيبقى التحدي الأبرز إيرانياً، خصوصاً أن النظام في طهران لا يزال مصرّاً على أن يكون العراق مستعمرة إيرانيّة. يعكس مثل هذا الإصرار الإيراني الرغبة في تغيير المنطقة كلّها. لهذا تبدو مصرّة على إسقاطها. لم تغير إيران سياستها منذ 1980، بل منذ سقوط الشاه في العام 1979. تعرف إيران تماماً أن سقوط الحدود الإيرانية – العراقية سقوط لكلّ التوازنات في المنطقة. هذا ما أكّده الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في العام 1982 عندما سئل عن سبب دعم فرنسا العراق عسكرياً في حربه مع إيران. قال ميتران وقتذاك إنّ الحدود بين إيران والعراق ليست مجرّد حدود بين بلدين، بل هي حدود قديمة عمرها مئات السنين بين حضارتين كبيرتين (الفرس والعرب) وأي سقوط لهذه الحدود سيؤثّر في المنطقة كلها والتوازن فيها.
اذا كانت زيارة البابا أظهرت شيئاً، فهي أظهرت انّ هناك في العراق من يسعى الى بناء دولة متوازنة عاصمتها بغداد وأنّ حكومة مصطفى الكاظمي، التي استطاعت تأمين ظروف النجاح للزيارة، يمكن الرهان عليها وإنْ في حدود معيّنة. كذلك يمكن الرهان على رجل مثل رئيس الجمهورية برهم صالح الذي قدّم، مع زوجته التي شاركته في استقبال البابا في القصر الجمهوري في بغداد، وجهاً عصرياً وحضارياً ولائقاً للعراق.
هل يمكن لحكومة مصطفى الكاظمي الذي يكرّر رفضه لأن يكون العراق “ساحة” في ظل وجود برهم صالح في رئاسة الجمهورية المساهمة في إيجاد توازن داخل العراق نفسه؟ هل زيارة البابا يمكن أن تساعد في ذلك؟ إنّهما سؤالان سيُطرحان بإلحاح في مرحلة ما بعد مغادرة رأس الكنسية بغداد حيث أضاء شمعة في الظلمة العراقية.
وحدة الدراسات العراقية