المؤلفات التي صدرت خلال السنوات العشر الماضية وتناولت الانتفاضة الشعبية السورية من قريب أو بعيد، لا تُعدّ ولا تُحصى: حسب محرّك بحث غوغل، هنالك أكثر من 140 باللغة الإنكليزية، و83 باللغة الفرنسية، إذا استخدم المرء مفردة «ثورة»؛ وقرابة 56، إذا استعاض عنها بمفردة «انتفاضة». الجرد الموجز لمحتويات كلّ مؤلف يوحي، من دون كبير عناء، بالتوجّه السياسي والفكري للعمل، وما الذي يتبناه من مقاربات في قراءة الانتفاضة، وهل يميل إلى الشعب أم النظام أم يختار منزلة بين المنزلتين؛ وهل يُرجعها إلى آمال الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدل والديمقراطية، أم إلى مؤامرات قوى خارجية ومجموعات «مندسة» وإسلاميين وجهاديين وما إلى هذا…
وفي حدود ما قرأت من هذه المؤلفات، وما حرصت على التعرّف إلى مقارباته ضمن مستويات متباينة من الإلمام أو حتى التقليب، وأقول – بعيداً عن أيّ تواضع كاذب – إنه ليس مقداراً قليلاً لجهة العدد والسوية المنهجية والفكرية؛ لم تدهشني، ولم تستفزّني منهجياً قبل الاستفزاز الأخلاقي، أطروحة أخرى غير تلك القائلة بأنّ سبب اندلاع الانتفاضة في سوريا مناخي صرف، يعود إلى فترات الجفاف التي سبقت 2011. والمرء يمكن أن يتفهم صدور هذا التفسير من باحثين مختلفي المشارب والخيارات والمناهج، أو من معلّقين يندر أن تفاجئنا خلاصاتهم (مثل الأمريكي توماس فريدمان)؛ ويبدو صعباً، في المقابل، أن تصدر الأطروحة عن أكاديمية في جامعة جورجتاون الأمريكية، يحدث أنها سورية الأصل وتعرف طبائع بلدها والنظام الذي يحكمه بالحديد والنار منذ 50 سنة!
في حدود ما قرأت من مؤلفات لم تدهشني، ولم تستفزّني منهجياً قبل الاستفزاز الأخلاقي، أطروحة أخرى غير تلك القائلة بأنّ سبب اندلاع الانتفاضة في سوريا هو مناخي صرف، يعود إلى فترات الجفاف التي سبقت 2011
هذه حال مروة داودي في كتابها «أصول النزاع السوري: التغيّر المناخي والأمن الإنساني» الذي صدر بالإنكليزية السنة الماضية، عن منشورات جامعة كيمبرج؛ وتتوزع فصوله على جزء أوّل يتناول السياق (تاريخ وجغرافية وأمن سوريا) ويفصّل الثاني القول في معادلة ثلاثية تسميها داودي «الأمن الإنساني – البيئي – المناخي». سؤال الاستهلال تطرحه المؤلفة منذ السطور الأولى كي تطلق وهج الفرضية الكبرى: «هل كانت الانتفاضة ستقع سنة 2011 من دون الربيع العربي؟ لا، ربما» تجيب داودي، لأنّ «القمع السياسي، والفساد، والهزّات الإقليمية كانت كافية لتحفيز الناس على الخروج إلى الشوارع». حسناً، فما الذي يجعلها تخصّ الانتفاضة السورية بهذا المثلث الإنساني والبيئي والمناخي؟ هنا جوابها الأوّل والابتدائي: «في سياق التغيّر المناخي، كان التوتر الشديد بخصوص موارد الماء والأرض قد ضاعف كثيراً من انعدام المساواة، فأنتج بذلك قنبلة موقوتة تنتظر التفجير».
والحال أنّ الحدود الدنيا من مقتضيات الرصانة العلمية، ومثلها حدود دنيا من أخذ سلسلة حقائق صلبة بعين الاعتبار، دفعت داودي إلى استعراض ثلاثة معطيات حاسمة: أنّ الانتفاضة لم تبدأ، أوّلاً، من مساحات الجفاف في منطقة «الجزيرة» السورية؛ ولا أدلة، ثانياً، على انطلاق الانتفاضة من أوساط بعض الذين هاجروا هرباً من الجفاف، واستوطنوا في محيط دمشق ودرعا؛ وأنّ شحّ المياه، ثالثاً، يضرب سوريا بأسرها منذ الخمسينيات. هذه حقائق لا تصنع رادعاً أمام ترسيخ فرضيات البيئة والمناخ والجفاف كعوامل محرّضة على الانتفاضة، أكثر من تاريخ الاستبداد والفساد والحكم الوراثي والعائلي وتحويل سوريا إلى مزرعة لآل الأسد وآل مخلوف؛ بل لعلّ الحقائق الثلاث ليست، عند داودي، سوى «حيثيات» من داخل الفرضية المركزية ذاتها، أو أنها انزياح مؤقت يثبت ما يتمّ افتراضه حتى من باب نقضه!
بديل هذا التشخيص لواقع النظام هو اعتماد الأسد الأب على خيارات ليبرالية نأت عن سياسات حزب البعث الزراعية خصوصاً، ثم فرض «الانفتاح» على المجتمع السوري واقتصاده والانتقال إلى اقتصاد السوق منذ عام 2005. ورغم إقرار داودي بأنّ توجهات كهذه هي من صنع النظام وليس الطبيعة والبيئة والمناخ، فإنها تواصل تصعيد الأطروحة على قواعد متناهية البساطة، والكثير من التبسيط، في إطار تساؤلات مثل هذه: ألم تؤثر هذه السياسات على شحّ المياه والأمن الغذائي؟ ألم تكن مشكلة سدّ الطبقة (الذي تطلق عليه المؤلفة اسم «الطقبة» ص 135) وراء الكثير من عناصر المسالة الكردية في سوريا؟ ألا نعود، إذن، إلى أصول «النزاع» كما يقول عنوان الكتاب، أيّ التغيّر المناخي؟
وإذْ يستخلص الكتاب بأنّ العوامل السياسية كانت «في نهاية المطاف» كما تقول المؤلفة، أهمّ من الجفاف في بناء الانتفاضة؛ فإنّ منظور الفرضية المركزية يبقى طاغياً وكفيلاً عندها بإرجاع السبب إلى المسبب، وهو بالتالي «قابل للتطبيق حتى ما وراء التغيّر المناخي وانعدام الأمن في سوريا». في المقابل، لسوف ينتظر القارئ 94 صفحة حتى تأتي داودي على ذكر بشار الأسد، للمرة الثانية بعد مرّة أولى بريئة ص 10، ضمن مصطلح «انبثاق قيادة جديدة».
هو اصطلاح لا يُفهم منه، عند غير المطلع على أحوال سوريا في جورجتاون مثلاً، أنّ هذا «القائد» الجديد ليس سوى وريث لأبيه، وجرى تنصيبه ضمن مهزلة «دستورية» أقرب إلى الكرنفال؛ أو أنه، في سنة 2013، سوف يستحق لقب «بشار الكيماوي» بعد قصف الغوطة الشرقية؛ أو، أخيراً وليس آخراً، أنه سلّم البلد الذي تتحدّر منه داودي إلى خمسة احتلالات أجنبية، كي يبقى متربعاً على عرش الدمار…
صبحي حديدي
القدس العربي