احتاجت غالبية الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط إلى عشر سنوات بعد اندلاع انتفاضات العرب الشعبية كي تدرك أنّ ما يجمع بينها، على أصعدة المصالح الحيوية أسوة بضرورات حفظ البقاء، هو أكثر بكثير مما يفرّقها؛ فأخذت تتقارب وتتعاون، بعد أن تباعدت وتنافرت. يستوي الأمر أن يكون نظام الحكم آتياً عن طريق هذه النسبة أو تلك من سلطة صندوق الاقتراع، أو مستبداً عسكرتارياً فاسداً ومفسِداً، تابعاً إقليمياً أو دولياً، مطّبعاً علانية أو سرّاً، مدنياً كان أم عسكرتارياً…
ليست منفصلة عن هذا التحوّل الجارف أحوال غالبية «المعارضات» العربية على اختلاف تياراتها ومواقعها ومستويات أدائها السياسي والإيديولوجي، بل قد يصحّ القول إنها جزء فرعي مكمِّل للظاهرة الأمّ؛ وهذه خلاصة بائسة محزنة، بقدر ما هي توصيف بسيط لواقع الحال. وعلى نطاق واسع، من المحيط إلى الخليج، غير بعيد عن تركيا وإيران وفلسطين المحتلة أيضاً؛ تتقارب، على نحو مدهش حقاً، درجات انحدار المعارضات المسماة «إسلامية» أو «إسلاموية» لمَن يشاء؛ مع المعارضات المسماة «علمانية»، يسارية كانت أم يمينية أم وسطية؛ ومع التيارات المسماة «ليبرالية» تارة، و«تكنوقراطية» تارة أخرى.
ولا عجب في أنّ ملفات المنطقة الساخنة، من العراق إلى اليمن وليبيا، ومن سوريا إلى لبنان وفلسطين المحتلة، ومن إيران إلى أفغانستان؛ هي ذاتها الملفات التي أجّجت الخلافات بين نظام الحكم هذا أو ذاك، وهي ذاتها التي أوجبت التقارب الراهن بين «خصوم» الأمس الذين ينقلبون اليوم إلى أصدقاء وأشقاء أو حتى حلفاء. ولا استثناء هنا كذلك لأنّ تاريخ العالم، وليس المنطقة وحدها في الواقع، حفل ويحفل بنماذج شتى من هذه التحوّلات؛ التي لن يقع ضحية لها، ويدفع أثمانها الفادحة، إلا أولئك الذين يحلو لهم تصديق ألعاب السياسة خارج القانون الأزلي الخاصّ بـ«السياسة الواقعية»، أو الـRealpolitik في الرطانة الغربية الشائعة؛ التي يسير أصدق تعريفاتها هكذا: صياغة السياسات على أساس السياقات المتبدلة من حول المصالح، وليس على أيّ أساس أخلاقي أو معنوي.
ومن اتهام الإمارات بالتورّط في التخطيط للانقلاب الفاشل ضدّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سنة 2016، إلى استقبال ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في أنقرة أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي ودعم الاقتصاد التركي بسلّة قيمتها 15 مليار دولار بين صندوق استثماري وضخّ في احتياطي البنك المركزي التركي؛ ثمة نموذج صارخ لانقلابات تلك السياسات، «الواقعية» بامتياز لا يصحّ القول بأنه لا نظير له، فالنظائر على مدّ البصر. وللمرء هنا أن يستذكر أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء التركي الأسبق الذي تولى أيضاً رئاسة حزب «العدالة والتنمية»، في نظريته الأشهر حول خيار «الدرجة صفر في النزاع» مع الجوار، التي انطلقت من مبدأ غير متعارض مع «السياسة الواقعية» أيضاً: أياً كانت الخلافات بين الدول المتجاورة، فإنّ العلاقات يمكن تحسينها عن طريق تقوية الصلات الاقتصادية.
صحيح أنّ أوغلو اليوم في صفوف المعارضة، بصرف النظر عن مدلولات الكلمة في الحالة التركية الراهنة وخيارات حزبه «المستقبل» حديث التأسيس، فإنّ انفتاح أردوغان على الإمارات، وقريباً مصر والسعودية، ثمّ موازينه مع الكرملين التي تتبدّل مراراً دون أن تفقد ثباتها النسبي الملموس… ليست، وسواها مما تخفي الأيام والأشهر المقبلة، سوى عودة مظفّرة لنظرية أوغلو حول تصفير المشكلات مع الجوار.
وغنيّ عن القول إنه، في غمرة المصالحات بين أنظمة الحكم في المنطقة، لا عزاء لهذه أو تلك من «المعارضات» التي تشبثت بحبائل أنقرة أو أبو ظبي أو الرياض أو القاهرة، أو هذه العواصم مجتمعة/ متفرقة، متقاربة/ متنافرة؛ فما بالك بالمظلّات التي تغطيها، شكلاً على الأقلّ، في واشنطن وموسكو وطهران ولندن وباريس وبروكسل. ذلك لأنّ العزاء هنا مكرمة، يحدث أن يضنّ بها المتصالحون على بيادقهم السابقة!
صبحي حديدي
القدس العربي