تمر كازاخستان هذه الأيام بأكثر مراحل تاريخها السياسي المعاصر تعقيدا، بعد تحول السخط الشعبي المتراكم منذ فترة طويلة إلى موجة هائلة من العنف.
بدأت الاضطرابات في هذا البلد باحتجاجات من قبل مالكي السيارات في مقاطعة مانغيستاو (جنوب غربي البلاد) ضد الارتفاع الحاد في تكلفة غاز البترول المسال، الذي يستخدم وقودا للسيارات. ووفقًا للجمعية الكازاخية لشركات مجمع الطاقة فإنه يستخدم نحو 80% من أسطول المركبات في المقاطعة الغاز في الوقود، لأنه أرخص من البنزين.
وكانت السلطات الكازاخية قررت عام 2021 تحرير الأسعار تدريجيا في سوق الغاز المسال، وزيادة حصة غاز البترول المسال المباع عبر منصات التجارة الإلكترونية على أساس العرض والطلب، بما في ذلك محطات تعبئة غاز السيارات؛ بمعنى آخر كان من المعروف أنه اعتبارا من الأول من يناير/كانون الثاني 2022 سيتم بيع الغاز المسال بنسبة 100% من خلال التبادلات (باستثناء عدد من الفئات).
ومع ذلك، فإن الانتقال إلى أسعار السوق، وبالتالي ارتفاع سعر لتر الغاز المسال في نفس منطقة مانغيستاو من 80 إلى 90 تنغيا في نهاية العام الماضي إلى 120 تنغيا (0.28 دولارا أميركيا تقريبا) في بداية يناير/كانون الثاني الجاري، وألهبت المستهلكين النهائيين على حين غرة، فحتى مارس/آذار 2021 كان لهذه المنطقة سقف لسعر الغاز في محطات الوقود يبلغ 50 تنغيا للتر، وهو الأدنى بين جميع المناطق الكازاخية.
وشكل إعلان الحكومة رفع الأسعار شرارة الاحتجاجات في البلاد، وتطورت الشعارات من إعادة أسعار الغاز إلى ما كانت عليه لتصل إلى طرح شعارات سياسية تدعو لإسقاط النظام الحاكم، والتساؤل حول أسباب الفقر في أكثر جمهوريات آسيا الوسطة غنا بالموارد الطبيعية.
وفقا لبعض التقديرات، فإن كازاخستان تمتلك ثاني أكبر احتياطات من اليورانيوم والكروم والرصاص والزنك، وثالث أكبر احتياطي من المنجنيز، وخامس أكبر احتياطي من النحاس، وهي من بين العشرة الأوائل من حيث احتياطات الفحم والحديد والذهب، كما تعد من البلدان المصدرة للماس.
ووفقا للبنك الدولي، فإن كازاخستان تحتل المرتبة العاشرة في العالم من حيث حصة رأس المال الطبيعي غير المتجدد (النفط والغاز والمعادن) في إجمالي ثروة البلاد (نحو 27%).
وفي عام 2020، تحول نصف إجمالي صادرات كازاخستان من البضائع إلى النفط الخام بمعدل 23.7 مليار دولار من أصل 47 مليار دولار، وفي مجموعة “أوبك بلس” تبلغ حصة إنتاج النفط في البلاد نحو 1.6 مليون برميل يوميا، أي أكثر من 4% من إجمالي إنتاج بلدان المجموعة، كما بلغت إمدادات الغاز الطبيعي إلى الخارج العام الماضي 2.5 مليار دولار أخرى (حسب بيانات قاعدة التجارة الخارجية للأمم المتحدة).
وبالأرقام، تقدر صادرات كازاخستان من خام النحاس ومنتجاته بـ4.25 مليارات دولار في عام 2020، والحديد والصلب 3.18 مليارات دولار، واليورانيوم 1.71 مليار دولار، مع 12% من احتياطي اليورانيوم في العالم، والمرتبة الأولى في العالم في تصديره (حسب بيانات العام نفسه).
علاوة على ذلك، يمتلك الصندوق السيادي لكازاخستان -الذي يدير أكبر الشركات المملوكة للدولة في البلاد- أصولا تعادل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني.
كما اجتذب اقتصاد كازاخستان عشرات مليارات الدولارات الأميركية من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتميز البلد الغني بسمعة جيدة من قبل المستثمرين كشريك موثوق فيه يضمن الاستقرار والتعاون متبادل المنفعة.
في المقابل، كان عدم المساواة يتزايد باضطراد في الجمهورية، وتأثرت الفئات محدودة الدخل أكثر من غيرها من عدم التوزيع العادل للثروات، وازدادت إثر ذلك التوترات الاجتماعية.
ففي عام 2011، انتهى إضراب لعمال النفط استمر شهورا في منطقة زاناوزن باشتباكات نجم عنها مقتل 16 شخصا، وفي ذروة الأجواء المشحونة نتيجة ذلك وبشكل مثير للجدل، قامت الحكومة برفع سن التقاعد إلى 63 سنة للرجال والنساء، كما حطمت جائحة كورونا أسطورة “السلم الاجتماعي” في كازاخستان، إذ تواصل ارتفاع معدلات الفقر، حتى حسب البيانات الرسمية.
فساد
كما أن من بين العوامل التي أدت إلى الحد من نمو الاستثمارات في الاقتصاد الكازاخستاني ارتفاع مستوى الفساد، والعيوب في استقلالية النظام القضائي وضعفه.
ورغم الإعلان عن تشكيل مجلس أعلى للإصلاحات بعد تخلي نور سلطان نزارباييف عن منصب الرئاسة، فإنه لم تحدث أي إصلاحات ملموسة خلال هذا الوقت، حسب المعارضة الكازاخية.
وقبيل ليلة رأس السنة الجديدة، كان الحد الأدنى للأجور في كازاخستان (المحولة إلى الدولار) أقل من 100 دولار في الشهر، أي أقل حتى من كينيا أو باكستان، ولم يرتفع الحد الأدنى للأجور في البلاد منذ عام 2018، ويبدو أن قرار زيادته في الأول من يناير/كانون الثاني 2022 بنسبة 41% (إلى نحو 137 دولارا) جاء متأخرا.
فوارق كبيرة
إلى جانب ذلك، تشكو كازاخستان من انعدام المساواة بين الأقاليم؛ فقبل بضع سنوات كان نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في مقاطعة أتيراو (أغنى تجمع في البلاد) أكثر من 3 مرات من المتوسط الوطني، في حين كان في تركستان (المنطقة الأكثر فقرا في الجمهورية) 33% فقط من المتوسط، وذلك وفقا لتقرير منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي العام الماضي.
وحسب التقرير ذاته، فإن الفوارق بين المناطق في مستويات المعيشة في كازاخستان أعلى مرتين إلى 3 مرات مما هي عليه في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الكبيرة ذات الكثافة السكانية المنخفضة المماثلة (كندا وأستراليا مثلا).
في الوقت نفسه، فإن قاعدة موارد النفط والغاز في الجزء الغربي من كازاخستان (أتيراو، مانغيستاو وكازاخستان الغربية)، التي بسببها يعد نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في هذه المناطق أعلى من المتوسط الوطني؛ تخفي أيضا عدم المساواة الداخلية بالنظر إلى الدائرة المحدودة التي تحصل على رواتب عالية من العاملين في قطاع النفط.
ديموغرافية الاحتجاجات
أخيرا، يعد الجانب الديموغرافي جزءا مهما أيضا من المشهد الاجتماعي والسياسي في كازاخستان، فهناك عدد كبير من الشباب نسبيا، إذ يبلغ متوسط العمر في البلاد 30.7 عاما، بينما في الجارة روسيا -للمقارنة- يبلغ نحو 40 عاما.
وفي عام 2021 تجاوز عدد سكان كازاخستان 19 مليون نسمة، والزيادة الطبيعية نحو 250 ألف شخص في المتوسط منذ عام 2013.
المصدر : الجزيرة