ليست الإشكالية في استئناف الاتصال المباشر بين الرئيسين الأمريكي والروسي، سواء بدبلوماسية الهاتف، أو عبر تواصل افتراضي.
إنما الإشكالية فيما هو قادم.. فالواضح في الاتصالات الراهنة، والمقرر أن تتم بدءا من 12 يناير الجاري بين روسيا وبين الولايات المتحدة ومنظمة الأمن الأوروبي، واللقاءات المخطط لها أمنيا واستراتيجيا، أنها تركز على الملف الأمني الشامل، الذي يربط موسكو وواشنطن في جملة من الاهتمامات والأولويات، كما تركز على تفكيك عنصر الأزمة، والذي سيتم مرحليا، ليس فقط في ملف أوكرانيا، وإنما في ملفات ضبط التسلح والأسلحة النووية والاتفاقيات الحاكمة للمسار الأمني، سواء على المستوى الثنائي، أو المتعدد، الذي يشمل دول الاتحاد الأوروبي، باعتبارها طرفا ثالثا مؤثرا.
كذلك فإن القضية الكبرى، التي تشغل البلدين، هي التوصل إلى صيغة لتخفيض المواجهة، وليس الشروع في عمل عسكري محتمل تسوّق المخابرات المركزية له بعد أن قامت القوات الروسية بحشدها العسكري على طول حدودها مع أوكرانيا، في رسالة لها دلالاتها قبل الحديث عن أي خطوات دبلوماسية مرتقبة خلال الأيام المقبلة، وهو ما يتفهم أبعاده جيدا الجانب الأمريكي، الساعي أيضا للتهدئة وليس تمديد الصراع أو البدء في المواجهة التي تسوّق إعلاميا وسياسيا من الجانبين، خاصة أن الطرف الأوروبي يدرك جيدا خطورة ما سيجري، من واقع ما يحدث من محاولات أوروبية عموما، وبريطانية خصوصا، في الدخول لحلبة المواجهة عن قرب، وهو ما قد يدفع الجانب الروسي لاستمرار توجيه رسائله العسكرية قبل الدخول في حوار استراتيجي على مجمل القضايا باعتبار أوكرانيا جزءا من كل وليست فقط ملفا واحدا، وهو ما تدركه الإدارة الأمريكية في مجمل تحركاتها في “منطقة نفوذ” للجانب الروسي، الذي لن يسمح فيها بتقديم أي تنازلات.
فمنطقة البحر الأسود، وما يجاورها ليست منطقة مفتوحة للغرب، ولن تكون، بل هي وستظل مرتكزا للحركة الروسية من وإلى العالم، في خطوط الإمدادات، والغاز والنفط والتجارة، وهو ما يدركه جيدا الجانب الأوروبي، والأمريكي تحديدا.
رغم الإجراءات العسكرية المتلاحقة للجانب الأمريكي ودعمه الدول الأوروبية وتبنّيه العمل العسكري الاحترازي، فإن المشكلة الرئيسية التي يدركها الروس جيدا أن الولايات المتحدة لن تستطيع الدخول في مواجهة مع كل من الصين في بحر الصين الجنوبي، وروسيا في منطقة البحر الأسود، بصرف النظر عن القيام بمناورات عسكرية، أو إعادة تموضع القوات الأمريكية في امتدادات المنطقة.
ولا تزال الولايات المتحدة تواجه مشكلة حقيقية متعلقة بنمط علاقاتها الهيكلية بدول الناتو وإعادة تحديد أولوياته ومسارات عمله في مناطق التوتر والنفوذ، وهو ما تدركه جيدا روسيا، حيث الخلاف حول المفاهيم والمحددات الاستراتيجية والأدوار، وبالتالي فمن مصلحة الولايات المتحدة الدخول في حوار استراتيجي شامل لتحديد المهام الكبرى، ولو تطلب الأمر الدخول في مفاوضات شاملة مع روسيا بهدف تحييدها في أي مواجهة محتملة مع الصين في الملفات الكبرى.
وهناك تيار في الإدارة الأمريكية يدعو للعمل مع روسيا وتخفيض مستوى الصراع الراهن وتبريد أجوائه، تخوفا من ردود الفعل الروسية غير المتوقعة، وقد سبق أن صعّدت روسيا في جورجيا وفي شبه جزيرة القرم ولم تتدخل الولايات المتحدة، كما وقفت الدول الأوروبية في موقعها والقضية لم تكن تعترف بالإجراءات الروسية أو رفضها كما تم، وإنما في قدرة الجانب الروسي في المناورة والتحرك المباشر حفاظا على مناطق حضوره الاستراتيجي، التي لا يمكن لأي رئيس في الكرملين القبول بها، بل العمل في مواجهة أي مخطط يسعى للحد من نفوذه، أو تغييب دوره الأمني أو الاستراتيجي في هذه المنطقة، ليس في أوكرانيا، وإنما في جمهوريات آسيا الوسطى، وصولا إلى منطقة القوقاز بأكملها.
لهذا فإن الإدارة الأمريكية، وبعد مرور عام علي توليها، ستقبل باستمرار الحوار والعمل معا بهدف التوصل إلى حلول توافقية أو في منتصف الطريق، وهو الأمر الذي قد يؤدي لتبعات إيجابية لبعض الوقت، فالحوار الأمريكي الغربي عبر “الناتو” سيحتاج إلى وقت وجدول أعمال محدد متواصل وحول جملة من القضايا، التي ستشمل إشكاليات متعددة غالبيتها ساكن وبعضها تم فتحه مؤخرا، وستعمل منظمة الأمن الأوروبي على بلورة رؤيتها لتفاصيله قبل الحوار المزمع مع موسكو وقبل الطرح الأمريكي المحدد.
على المستوى الروسي، فإن الرئيس “بوتين” أعد عدته السياسية والاستراتيجية لكل الخيارات بعد سلسلة إجراءات عسكرية واستراتيجية أقدم عليها في كل اتجاه، ومن ثم فإن ما قام به من خطوات استباقية كان هدفه الاستعداد لما هو قادم من تطورات، أيا كان مسارها السياسي أو الاستراتيجي، وهو ما تدرك تبعاته الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
ومن ثم فإن الجانب الروسي سيتحرك في إطار خطوات استباقية وليس رد فعل، وهو ما سيكون عنوانا للحركة الروسية مستقبلا، سواء نجحت اللقاءات والاتصالات في الاجتماعات المقبلة أو لا، فروسيا ستستمر لتؤكد موقعها السياسي والاستراتيجي في البلقان والقوقاز، وجمهوريات آسيا الوسطي والبلطيق، ولن تسمح بأي تجاوزات استراتيجية، فالسياسة الروسية لديها خياراتها وبدائلها الصعبة، لكنها لن تغامر بأي أعمال عسكرية إلا بعد أن تدفع الأطراف الأخرى -وعلى رأسها أمريكا وأوروبا- إلى حافة الهاوية، التي لا يمكن للجانب الآخر إلا تقبلها.
ستتعامل روسيا مع كل التطورات وستتبع منطق الرشادة السياسية والاستراتيجية، ولن تغامر بالدخول في أوكرانيا إلا إثباتا لسياستها الكبرى والمحددة في المنطقة، وكرسالة أولى للولايات المتحدة والناتو، حيث الخطوط الحمراء المعلنة في عدم إلحاق أوكرانيا بالحلف، أو دخول الحلف في منطقة النفوذ الروسي، في ظل تعهدات أمنية واستراتيجية كبرى تطلبها روسيا، وهو ما سيكون محور الحوار الاستراتيجي بين روسيا وبين دول منظمة التعاون الأوروبي، حيث لن يسمح “بوتين” لدول الحلف بالتمدد في الأفق الروسي، مع إعادة تعريف الأمن الروسي والأمن الأوروبي ومساحات الحركة المسموح بها للجانب الأوروبي.
في كل الخيارات قد تبدأ روسيا وأمريكا إجراء مقايضات كبرى مرحليا تتسع لتشمل إيران وتركيا وأوكرانيا والصين ودول الناتو، بل قد تتمدد في الشرق الأوسط، حيث الملفان السوري والليبي، وهو ما يجب الانتباه إليه في ظل التطورات الهيكلية الحقيقية الجارية في النظام الدولي الراهن، ووجود الخيارات العسكرية بجوار السياسية على المستوى نفسه، وعودة أجواء التوتر عالميا.
طارق فهمي
العين الاخبارية