تشكّل التطورات في بعض الدول، بسبب طبيعة تكويناتها السياسية، علامة على اتجاهات عامّة للبلدان المحيطة بها جغرافيا، كما يمكن أن تكون مثالا على أوضاع عالميّة.
الولايات المتحدة الأمريكية هي طبعا إحدى أكبر الدول المؤثرة في العالم، والسبّاقة في أخذ سياقات تؤثر على ما حولها من بلدان، فيما يتجاوز تأثير قراراتها القارة الأمريكية ويفيض بكل اتجاهات العالم.
إيطاليا هي أيضا نموذج مفيد للدراسة، فهي البلد الأول الذي انتصرت فيه الفاشية في أوروبا، مع صعود زعيمها بنيتو موسوليني إلى سدة الحكم عام 1922، في حين وصل نظيره أدولف هتلر إلى الحكم عام 1933، وصعدت الفاشية إثر ذلك في كافة أنحاء أوروبا، وصولا إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939.
كانت البرازيل، هي الدولة الوحيدة من أمريكا اللاتينية التي أرسلت جنودا للمشاركة في أوروبا خلال تلك الحرب العالمية، وذلك بعد عودة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت من «مؤتمر الدار البيضاء» في المغرب، ولقائه الرئيس البرازيلي جيتوليو فارغاس.
امتدّ التأثير الأمريكي في البرازيل، لاحقا، إلى المرحلة التي كانت فيها واشنطن، على خلفية الرهاب السياسي من قوة اليسار، راعيا لتحركات العسكر في القارّة، فكان لها دور في انقلاب عام 1964، الذي أنهى الحكومة الديمقراطية، ولم تنته هذه الحقبة حتى عام 1985، مع انتخاب أول رئيس مدني للبرازيل منذ عام 1960.
شكّل بولسونارو، الرئيس الحالي سيئ الصيت، حلفا معلنا مع تيارات اليمين المتطرّف في العالم، ومع الرئيس الأمريكي ترامب، وقد لّقّب بولسونارو، على خلفية سياساته المتشابهة مع ترامب، وإعلانه الإعجاب به، بـ«ترامب الاستوائي» وفي حين هنأ زعماء العالم الرئيس الأمريكي المنتخب كان صمت بولسونارو واضح المعاني في انزعاجه من انتصار جو بايدن.
اشتبك بولسونارو مع بايدن بعد مناظرة له مع ترامب، حين قال إن على أمريكا حض البرازيل على حماية غابات الأمازون بشكل أفضل، فرد الرئيس البرازيلي بوصف ذلك التصريح بـ«الكارثي» معلقا: «يا للعار يا سيد جون بايدن!» (مخطئا في كتابة الاسم الأول للرئيس المنتخب).
بولسونارو هو نقيب سابق في الجيش، وقد عيّن عددا كبيرا من أفراد الجيش السابقين في مناصب بحكومته، وهو واضح في تصريحاته في رغبته بعودة الانقلابات العسكرية، كما أنه يعمل، بشكل صريح، على تحريض الجيش على الانقضاض على السلطات المدنية في حال خسر الانتخابات، التي شكك في نتائجها مسبقا، وكذلك في أي قرارات قضائية أو نيابية في الموضوع، قائلا إن القوات المسلحة «لن تقبل القرارات السخيفة من المحكمة العليا أو الكونغرس» البرازيليين.
بولسونارو، مثل ترامب، لا يرغب في التخلّي عن السلطة، ورغم تفوّق منافسه اليساري، الرئيس الأسبق، ايناسيو لولا دا سيلفا، في الجولة الأولى من الانتخابات، فإن النتائج التي حققها بولسونارو، وقدرت بـ43,23٪ من الأصوات (مقابل 48,4٪ لخصمه) لم تغيّر هجومه على نظام الانتخابات، مطالبا بانتظار ما ستسفر عنه «تحقيقات الجيش»!
تشبه هذه الوقائع، في سيلانها جغرافيا من بلد إلى آخر، نظرية الأنابيب المستطرقة، حيث يتوازن «السائل» عند المستوى نفسه بغض النظر عن شكل وحجم الأنبوب الذي يحويه، وعليه يؤدي دعم أمريكا، ذات النظام الديمقراطي، لأنظمة دكتاتورية (أو نظام احتلال استيطاني مثل إسرائيل) إلى قيام الدكتاتوريات بردّ الجميل، حيث تساهم في تدعيم الاتجاهات اليمينية المتطرفة في أمريكا نفسها، التي تقوم بقيادتها وتعزيزها في أوروبا وبقاع أخرى، حتى تصطدم، فجأة، بنتائج أفعالها، على شكل ما يحصل في أوكرانيا حاليا!
القدس العربي