لا شيء مفاجئاً في العملية العسكرية التركية الجارية بصورة متزامنة في مناطق شمال سوريا وشمالها الشرقي وفي جبال قنديل شمال إقليم كردستان.
فقد أعلنت القيادة التركية عن نواياها في اجتياح مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية منذ حزيران الماضي، لكن تلك النوايا المعلنة اصطدمت برفض مزدوج أمريكي وروسي، فاختفت التصريحات التركية بهذا الخصوص لبضعة أشهر. ثم عاد التلويح بها مجدداً في أعقاب التفجير الإرهابي في شارع الاستقلال، الأحد قبل الماضي، ولكن مع تعديل لافت: فتم الحديث هذه المرة عن عمليات عسكرية محدودة في الزمان والمكان على غرار العمليات العسكرية شبه الدورية تجاه شمال العراق. أي قصف جوي بدون توغل بري. وهذا ما حدث بالفعل بعد انقضاء أقل من أسبوع على قنبلة شارع الاستقلال، فتم قصف مناطق متفرقة في ريف حلب الشمالي وكوباني وشرق الفرات تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. وردت هذه ببعض القذائف على معبري كلس وقرقميش.
لكن اللافت هذه المرة هو وقوع قتلى من قوات النظام الأسدي إضافة إلى قتلى من قوات قسد ومدنيين. فهل سيؤثر ذلك على عملية التطبيع التي يتم إنضاجها ببطء بين القيادة التركية ونظام الأسد، أم أن «كل شيء تحت السيطرة» ما زال؟
ظهرت أخبار أيضاً تتحدث عن أن عمليات الجيش التركي شملت مناطق خاضعة للأمريكيين في شرق الفرات، ولكن سرعان ما نفت المصادر التركية ذلك، وأعلنت الولايات المتحدة بدورها أن قواتها لم تتعرض لأي ضربات.
تشير كلا الواقعتين وردود الفعل بشأنهما إلى أن كلاً من نظام الأسد، ومن ورائه حليفه الروسي، والإدارة الأمريكية، غير معترضين في الأساس على العملية العسكرية التركية ضد القوات الكردية، لكن الروس ما زالوا متمسكين باعتراضهم على اجتياح بري محتمل كما نفهم من بيانات الكرملين. الأمريكيون أكثر رخاوة، هذه المرة، في اعتراضاتهم، وعلى أي حال يعتبرون أنفسهم غير معنيين بما يحدث في غرب نهر الفرات. أما النظام السوري، إضافة إلى عدم اكتراثه بمقتل «بضعة جنود» من قواته قد يعتبرهم خسائر جانبية، فمن المحتمل أنه راض عن العملية التركية التي ستؤدي إلى إضعاف قوات سوريا الديمقراطية وقد تشكل حافزاً لها للتقارب معه، ذلك التقارب الذي تعسر في جولات سابقة من المفاوضات بينهما. ولن تشكل «الخسائر الجانبية» المذكورة عقبة على طريق التطبيع مع القيادة التركية.
تشير كلا الواقعتين وردود الفعل بشأنهما إلى أن كلاً من نظام الأسد، ومن ورائه حليفه الروسي، والإدارة الأمريكية، غير معترضين في الأساس على العملية العسكرية التركية ضد القوات الكردية
وبالفعل في الوقت الذي كانت فيه الطائرات التركية تلقي بقنابلها على أهداف في الشمال السوري، أطلق أردوغان تصريحات جديدة بشأن احتمالات اللقاء المباشر مع بشار الأسد «بعد انتخابات 2023» كما قال. وهذا ينفي ما شاع في وسائل الإعلام عن «فتور» محتمل في مسار التطبيع بين أنقرة ونظام الأسد بعد الاندفاعة الأولى في شهر آب الماضي. فاللقاءات بين الطرفين على مستوى أجهزة المخابرات ما زالت مستمرة ولا يعلن عنها دائماً، ناهيكم عن إعلان فحواها أو النقاط التي تم التوافق بشأنها. وعاد الزخم إلى التوقعات بعد انتشار صور المصافحة بين أردوغان والسيسي في الدوحة في لقاء جمعهما، صحبة أمير قطر، على هامش نهائيات كأس العالم. فبين الرجلين في السنوات العشر الماضية ما صنع الحداد كما يقال، وقبل شهر من اليوم كان وزير الخارجية المصري يعلن تعليق محاولات التطبيع الجارية بين البلدين على مدى سنتين. لكن ذلك لم يمنع المصافحة مع ابتسامات واضحة على وجهيهما. وإذ سئل أردوغان من قبل وسائل الإعلام عما إذا كان من المحتمل إجراء مصافحة مماثلة مع بشار الأسد، أجاب قائلاً إنه ليس في السياسة خصومات دائمة، واللقاء ببشار الأسد ممكن أن يحدث في الوقت المناسب. وأضاف قائلاً إنه يمكن فتح صفحة جديدة في العلاقات بعد انتخابات العام القادم.
بالفعل ليس في السياسة خصومات دائمة ولا تحالفات دائمة. كل الكلام العدائي الصريح بين أردوغان من جهة وكل من السيسي والأسد من جهة أخرى، سيتم طيه «في الوقت المناسب» وكأنه لم يكن، تماماً كما حدث بين كل من تركيا من جهة وكل من السعودية والإمارات وإسرائيل من جهة أخرى. صحيح أن التوتر على خط انقرة ونظام دمشق أكثر تعقيداً من التوترات التركية مع الدول الأخرى المشار إليها، بسبب الوجود العسكري المباشر لتركيا في الأراضي السورية، واستمرار أنقرة في دعم فصائل مسلحة معارضة للأسد في مناطق سيطرتها، لكن هذه «العقد» هي ما يبدو أنه تتم معالجتها في اللقاءات الاستخبارية بين الجانبين تمهيداً للتطبيع السياسي الذي يسعيان نحوه.
والحال أن الاستراتيجية التركية بشأن سوريا قد تغيرت تماماً منذ 2017، بعد سقوط حلب الشرقية في يد قوات الأسد. فمنذ ذلك التاريخ تخلت القيادة التركية عن هدف إسقاط نظام بشار، واقتصرت أهدافها على منع إنشاء كيان كردي في مناطق الكثافة السكانية الكردية وإنزال أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف وحدات حماية الشعب ـ الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي. وقامت بثلاث عمليات اجتياح عسكري لبعض تلك المناطق في السنوات التالية.
هذا الهدف التركي لا يتعارض جوهرياً مع هدف النظام الأسدي في تلك المناطق، فكلا الطرفين يريد إضعاف القوات الكردية، ولا مانع لدى أنقرة من أن يستعيد نظام الأسد سيطرته على مناطق «الإدارة الذاتية» وينهي هذه الأخيرة. من هذا المنظور يمكن افتراض وجود تفاهم مسبق بين انقرة ونظام دمشق على العملية العسكرية الجديدة التي ربما تشكل عربون طي صفحة الماضي بينهما تمهيداً لمصافحة يتوقان إليها بين الأسد وأردوغان. أما من منظور السياسة الداخلية التركية فمن المحتمل أن يستعيد الحزب الحاكم وحليفه القومي بعض النقاط من شعبيتهما المتآكلة على الطريق إلى انتخابات الربيع القادم.
القدس العربي