لم يعلن أي من الأطراف المشاركة في المفاوضات غير المباشرة في فيينا بين الولايات المتحدة وإيران منذ ما يقرب من 18 شهرا عن فشلها أو توقفها رسميا، على الرغم من أنها تجمّدت عمليا منذ أكثر من شهرين ونصف الشهر. هدف إيران الأساسي من هذه المفاوضات إلغاء كل العقوبات التي كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق ترامب قد فرضتها عليها عقب انسحاب واشنطن من هذا الاتفاق عام 2018. أما الولايات المتحدة فهدفها الأساسي الحيلولة دون تمكين إيران من امتلاك سلاح نووي، أو الوصول إلى المستوى العلمي والمعرفي الذي يتيح لها القدرة على تصنيع هذا السلاح الرادع في حال ما إذا اتخذت قرارا بتصنيعه. وتعتقد الولايات المتحدة أن هذا الهدف يمكن أن يتحقّق إذا تمكنت من إقناع إيران أو إجبارها على العودة إلى تنفيذ كل الالتزامات الملقاة على عاتقها بموجب اتفاق 2015، خصوصا ما يتعلق من هذه الالتزامات بنسب تخصيب اليورانيوم وبإجراءات وآليات الرقابة الدولية المنصوص عليها في هذا الاتفاق.
كانت مفاوضات فيينا قد شهدت حالات مدٍّ وجزر، ومرت بأوقات عصيبة قبل أن تنفتح الآفاق عن أجواء من التفاؤل بقرب الوصول إلى تفاهم يسمح بإبرام الاتفاق المنشود، فقبل اندلاع الحرب في أوكرانيا مباشرة، نشرت وسائل الإعلام الغربية تقارير صحافية عديدة تشير إلى تذليل معظم العقبات التي كانت تعترض طريق هذه المفاوضات، مؤكّدة أن التوقيع على اتفاق العودة الأميركية المنتظرة بات وشيكا، وربما يتم خلال أيام معدودات. فجأة توقف كل شيء، وبدأت الأوساط الرسمية الأميركية، وكذلك معظم وسائل الإعلام الغربية، توجّه سيلا من الانتقادات إلى إيران، المتهمة تارّة بتعمّد عدم التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بامتناعها عن تقديم إجابات مقنعة على أسئلةٍ تتعلق باكتشاف آثار يورانيوم مخصّب عُثر عليها في مواقع إيرانية متفرّقة، لا تعلم عنها الوكالة الدولية شيئا، ما يوحي بأن لدى إيران ما تخفيه وبأن سلوكها لا يتسم بالشفافية، وتارّة أخرى بالانحياز إلى روسيا في الحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية، ببيعها طائرات مسيّرة كان لها تأثير فعال على مسار الحرب.
وعندما اندلعت في إيران موجة مظاهرات عارمة احتجاجا على وفاة الشابة مهسا أميني في أثناء اعتقالها، شنت وسائل الإعلام الغربية حملة شعواء على إيران، متهمة إياها بتعذيب الشابة حتى الموت، وباستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين. ولأن إيران رأت في اندلاع هذه الاحتجاجات دليلا على استمرار العداء الغربي لها، وعلى محاولاته التي لم تتوقّف لإسقاط نظامها، بدأت العلاقات الأميركية الإيرانية تدخل نفقا مظلما لا يساعد على فتح أفقٍ لاستئناف مفاوضات فيينا. صحيح أن أيا من الأطراف الموقعة على اتفاق 2015 لم يعلن رسميا بعد عن انتهاء مفاوضات فيينا أو فشلها، إلا أن السياق الحالي للعلاقات الأميركية الغربية، في هذه المرحلة على الأقل، لا يساعد مطلقا على العودة إلى طاولة المفاوضات، ناهيك عن إمكانية تحقيق أي تقدّم فيها.
للوهلة الأولى، تبدو التداعيات الناجمة عن الحرب الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية وكأنها السبب المباشر أو الرئيسي في توقف المفاوضات الأميركية الإيرانية، فمن الواضح أن الحرب على أوكرانيا أدّت إلى إيجاد حالة استقطابية جديدة في العلاقات الدولية، ساعدت بدورها على إعادة تشكيل التحالفات الدولية. ولأن إيران تبدو، من وجهة نظر الغرب، وكأنها تقف بثبات في خندق التحالف الداعم لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، في وقتٍ تتزعم فيه الولايات المتحدة تحالفا مضادّا يلقي بثقله كله وراء أوكرانيا، فقد كان من الطبيعي أن ينعكس هذا الوضع سلبا على مفاوضات فيينا، وأن يؤدّي إلى توقفها عمليا، حتى لو اقتضت مصلحة الطرفين عدم الإعلان رسميا عن فشلها، غير أن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن الحرب في أوكرانيا لم تكن هي السبب الرئيسي في تعثر مفاوضات فيينا أو توقفها، وأن تداعياتها المحتملة كانت تستدعي من الولايات المتحدة تسريع وتيرتها والوصول إلى تفاهم وليس العكس، أملا في تشجيع إيران على اتخاذ موقف الحياد والابتعاد قدر الإمكان عن روسيا والصين. لذا يُعتقد على نطاق واسع أن هناك أسبابا أخرى وراء تعثّر مفاوضات فيينا، من بينها العامل الإسرائيلي على سبيل المثال، بالإضافة إلى صلابة الموقف الإيراني الذي فشلت إدارة بايدن في تغييره أو زحزحته.
فرص القيام بعمل عسكري، أميركي إسرائيلي مشترك أو إسرائيلي منفرد، تكاد تكون مستحيلة في ظل الأوضاع الدولية الراهنة
ولكن ماذا بعد توقف مفاوضات فيينا أو وصولها إلى طريق مسدود؟ من الواضح أن البدائل المتاحة أمام الولايات المتحدة، وأيا كان السبب الحقيقي وراء هذا التوقف، تبدو محدودة، وقد لا تخرُج عن واحد من ثلاثة: الأول: أن تقرّر إدارة بايدن الانسحاب منها نهائيا واعتماد سياسة العقوبات القصوى من جديد، مع السعي، في الوقت نفسه، إلى دعم المحاولات الرامية إلى تغيير النظام الإيراني، وتقديم كل المساعدات الممكنة للقوى المعارضة للنظام الإيراني، سواء التي تعمل من داخل إيران نفسها أو من خارجها، وهذا هو البديل الذي تفضّله إسرائيل، وتسعى منذ فترة إلى دفع إدارة بايدن نحو اعتماده وتبنّيه. ومن المتوقع أن تزداد ضغوطها حدّة في هذا الاتجاه، خصوصا في حال تمكّن نتنياهو من تشكيل حكومة يمينية متطرّفة في إسرائيل، غير أن فرص تبنّي إدارة بايدن هذا البديل تكاد تكون معدومة، وذلك لأسباب عدة، فالرهان على إسقاط النظام الإيراني من الداخل قد يكون خاسرا، أو على الأقل ليس مضمونا، وسوف يؤدّي حتما إلى زيادة التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، وهذا هو تحديدا ما تحاول الولايات المتحدة تجنّبه بكل الوسائل الممكنة، فالوضع الدولي لا يسمح بحربٍ جديدة، بينما الحرب في أوكرانيا ما تزال مشتعلة، خصوصا في هذه المنطقة، فأي حربٍ فيها ستؤدّي حتما إلى رفع أسعار الطاقة من جديد، وهو ما لا يمكن للاقتصاد العالمي أن يتحمّله في هذه الظروف. يضاف إلى ذلك أن نجاح نتنياهو في تشكيل حكومة يمينية متطرّفة قد يؤدّي إلى تعقيدات كبيرة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، ويدفع بايدن نحو عدم الانسياق وراء رغبات نتنياهو.
البديل الثاني: أن تقرّر إدارة بايدن فجأة استنئناف المفاوضات، مع إبداء استعدادها للقبول بمعظم الشروط الإيرانية أو بجميعها، غير أن كفّة هذا البديل لا تبدو مرجّحة، لأسبابٍ عدة أيضا. فعودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015 بالشروط الإيرانية ستؤدّي حتما إلى رفع العقوبات كليا عن إيران وتمكينها من استعادة أموالها المجمّدة في الخارج، وهو عامل من شأنه تعظيم قدرة إيران على مضاعفة نفوذها في المنطقة، ومن ثم زيادة سخط حلفاء أميركا في المنطقة، وفي مقدمتهم إسرائيل والسعودية، وبالتالي قد يتسبب في إثارة مشكلات وتعقيدات داخلية عديدة للإدارة الأميركية الحالية قد لا تقوى على مواجهتها، خصوصا بعد فقدانها الأغلبية في مجلس النواب عقب انتخبات التجديد النصفي.
هامش الحركة الذي تتيحه الأوضاع الدولية الراهنة لإيران، يبدو أكبر بكثير من الذي تتيحه للولايات المتحدة
البديل الثالث: تهيئة الأجواء للتوصل إلى حلول وسطى، أو إلى “أنصاف حلول” كما يحلو لبعضهم تسميتها، منها على سبيل المثال محاولة إقناع إيران بالموافقة على تخزين كميات اليورانيوم المخصّبة تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعلى إجراء تخفيض تدريجي للكميات المخصّبة بنسبة 60%، مقابل الإلغاء التدريجي للحجز المفروض على الأموال الإيرانية لدى البنوك الغربية، مع فتح الأسواق الغربية، في الوقت نفسه، أمام منتجات النفط الإيراني. ويعني هذا الحل إبقاء ملف الرفع الشامل للعقوبات وكذلك مصير التصنيف على لوائح الإرهاب الأميركية معلقاً وموضوعاً للتفاوض في مرحلة قادمة، وذلك بدافع الحرص على المحافظة على حدٍّ أدنى من العلاقات التعاونية تسمح بتخفيض أجواء التوتر وحدّته في المنطقة. وعلى الرغم من أن لهذا البديل حظوظا أكبر من سابقيه، وقد يكون بديلا مغريا بالنسبة لإدارة بايدن، إلا أن احتمالات تبنّيه أو الموافقة عليه من إيران تبدو ضعيفة، نظرا إلى عمق الشعور بعدم الثقة في الولايات المتحدة، أيا كانت نوعية الإدارة الحاكمة، فرغم حدّة المشكلات الداخلية التي تعاني منها إيران حاليا، إلا أنني أعتقد أن هذه المشكلات تدفع إيران نحو مزيد من التشدّد مع الولايات المتحدة وليس العكس، فاحتمالات أن تؤدّي الضغوط الداخلية إلى إسقاط النظام الإيراني تكاد تكون معدومة. ولأن النخبة الحاكمة في إيران تدرك يقينا أن لديها أداة ضغط أكبر من قدرة الولايات المتحدة على احتمالها، وهي الرفع التدريجي لمستويات ونسب تخصيب اليورانيوم باستمرار، كما تدرك أن فرص القيام بعمل عسكري، أميركي إسرائيلي مشترك أو إسرائيلي منفرد، تكاد تكون مستحيلة في ظل الأوضاع الدولية الراهنة. يبدو لي أن إيران ستستمر في تشدّدها خلال المرحلة الراهنة، وقد تكون أكثر ميلا إلى دفع الأمور في اتجاه حافّة الهاوية.
أخلص مما تقدّم إلى أن مفاوضات فيينا ربما تكون قد وصلت بالفعل إلى طريق مسدود، وأن هامش الحركة الذي تتيحه الأوضاع الدولية الراهنة لإيران، يبدو أكبر بكثير من الذي تتيحه للولايات المتحدة.
العربي الجديد