معمر فيصل خولي
ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا، فجر يوم الاثنين 6 شباط/ فيراير الحالي. كان مركز الزالزال قريبًا من مدينة كهرمان مرعش التركية، ولكن محوره امتد إلى 400 كيلومتر على طول ما يعرف بالصدع الأناضولي الجنوبي. أوقع الزلزال خسائر فادحة، وإن متفاوتة، في عشر ولايات تركية، من أضنة وهاتاي إلى ديار بكر وملاطية، وفي عدة مدن وبلدات من محافظتي حلب وإدلب. ما ضاعف من وقع الكارثة، أن المنطقة المنكوبة ضُربت بزلزال ثان، بعد عشر ساعات من الأول، وبقوة لم تقل عن 7.6 درجات على مقياس ريختر، تسبب في انهيار الآلاف من المباني التي لم تكن قد انهارت في الزلزال الأول.
قورن الزلزال في أيامه الأولى بزلزال الولايات المتحدة الأمريكية في 1906م، ولكن تكشف حجم الكارثة تدريجيًّا دفع علماء زلازل إلى القول بأنه أحد أكبر الكوارث الطبيعية التي شهدتها الأرض في أكثر من مئة عام. أما وكالة (أفاد) التركية فقد أكدت أن زلزال كهرمان مرعش، كما بات يُعرف، هو الأكبر حجمًا والأكثر وقعًا طوال ألفي عام من تاريخ الأناضول.
من جانبها، أعلنت رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد”، اليوم السبت، أن حصيلة الوفيات جراء كارثة الزلزال جنوبي البلاد بلغت 44218 .
فمن حيث الخسائر البشرية، يشكل أكبر كارثة طبيعية في تاريخ الدولة التركية الحديث والمعاصر،وسيعيد ضبط معظم ديناميكياتها الاجتماعية والسياسية السابقة.
لذا من المتوقع جراء هذه الكارثة أن يعيد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الكثير من حساباته التي كان يبني عليها تحركات سياسته الخارجية على مختلف الأصعدة الإقليمية والدولية تلك السياسة التي اتسمت باستقلالية نسبية خلال السنوات السابقة ، وإن ديناميكيته السياسية بوتيرتها العالية المعروفة عنه، وحضوره الكبير في كل التفاعلات السياسية الدولية، قد تؤخذ كلها في التراجع، وهو الأمر المتوقع في مثل هذه الظروف الاستثنائية العصيبة بانعكاساتها القوية والمباشرة علي كافة جدول أعمال العمل الوطني العام الداخلية والخارجية…فرؤيته التي كان يتحرك بها دوليا، بأهدافها وأولوياتها ومحاورها وآلياتها وفق رؤيته الذاتية الخاصة لما يحقق لتركيا مصالحها الاستراتيجية الحيوية ويحمي لها أمنها القومي وسط هذه الدوامة العنيفة من النزاعات والأزمات والحروب الإقليمية والدولية ، لن تعود هي نفس ما كانت عليه قبل حدوث كارثة الزلزال، وهي الكارثة التي لم تشهد تركيا مثيلا لها في فظاعتها وفي عنف ما سببته لها من دمار خلال قرن كامل.
والآن تغير المشهد التركي برمته أو هو في طريقه إلى ذلك ، حيث أصبح إعادة إعمار المناطق الشاسعة التي أصابها الدمار وافقدها معالمها وشرد سكانها، هو الشاغل الأول للرئيس أردوغان وحكومته، إذ ستفرض هذه الكارثة الإنسانية تداعيات سلبية كبيرة على الاقتصاد التركي، خصوصاً وأنها تؤثر بالسلب على أسواق الطاقة والمال، ناهيك عن تراجع مؤشرات البورصة فى اسطنبول، فضلاً عن أن التأكيدات على احتمالية تكرر مثل هذا الحادث، يدفع باتجاه خسائر كبيرة على مستوى الاستثمار الأجنبي في البلاد، إذ أنه يقلص من حضور المستثمرين الأجانب،.
لدا فإن مهام الإعمار واعادة تاهيل المناطق المدمرة للحياة الطبيعية من جديد هي مهام هائلة في مسئولياتها وتكاليفها والتي لن تقدر عليها تركيا وحدها وانما سوف تتطلب مشاركة مالية دولية واسعة قد تتجاوز مئات المليارات من الدولارات وفقا لما جاء في معظم التقديرات عن الخسائر والاضرار التي أحدثها هذا الزلزال المدمر ، وهو ما يجب ان تركز عليه جهوده كرئيس مسئول ، وجهود حكومته في الفترة المقبلة وهي تخاطب الجماعة الدولية حول محنتها الراهنة ودوره في تمكينها من التغلب عليها. وقد يستدعي الأمر الدعوة من قبل الامم المتحدة او غيرها من الهيئات الدولية إلى عقد مؤتمرات للمانحين الدوليين من حكومات ومن صناديق ومؤسسات مالية دولية تعاطفا منها مع تركيا وشعبها في هذا الظرف الإنساني الصعب. ومن ثم، فان قدرة تركيا علي جمع هذه الأموال الطائلة من مصادرها الدولية المختلفة وفي أسرع وقت هو بحد ذاته أحد أصعب التحديات التي عليها ان تراهن عليها.وهو الاولوية التي تسبق الآن ما عداها من اولويات.
لذا سيصعب على تركيا ما بعد الزلزال تجاهل من مدوا لها يد العون في ساعة الألم والحاجة. من جهة أخرى، ولأن تركيا كانت قبل الزلزال تجتهد للخروج من بقايا أزمة مالية-اقتصادية، فإن أعباء ما بعد الزلزال الهائلة يمكن أن تتحول إلى كوابح متفاوتة القوة لتوجهات أنقرة الخارجية الاستقلالية، بغضِّ النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية والنيابية المقبلة. تركيا ما بعد الزلزال ستكون أكثر حاجة لدعم حلفائها في الغرب، وأصدقائها في الجوار، مما كانت عليه قبل الزلزال.
ومع هذه الانشغالات الجديدة بصعوباتها وتحدياتها واشكالياتها المختلفة ، سوف يتواري الكثير مما كان الرئيس التركي مشغولا به ودائم الحديث عنه طيلة الفترة الماضية ، خاصة ما تعلق من ذلك بقضايا التسليح وعلاقاته بدول الناتو والاتحاد الاوروبي ونزاعاته مع اليونان وقبرص في شرقي المتوسط حول التنقيب عن حقول الغاز الطبيعي وغيرها من المصالح الحيوية المهمة ، والحرب في اوكرانيا وموقفه من طرفيها ، وعلاقاته بالقطبين الامريكي والروسي وادارته لها ومواقفه تجاه سوريا وغيرها من دول حزام الازمات في البيئة العربية ، الى آخر هذه القائمة الحافلة بالقضايا والموضوعات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية التي استقطبت اهتمامه واستاثرت بجهوده وكان الحاضر فيها باستمرار بقراراته وتدخلاته وردود افعاله.
تركيا هي بالطبع دولة كبيرة، حجمًا وشعبًا ومقدرات؛ وليست الزلازل في تركيا بالشيء المفاجئ أو المستغرب. وليس ثمة شك في أن تركيا ستنهض من تحت ركام الزلزال، الذي سيتحول في النهاية، كما زلزالي 1939 و1999، إلى مجرد ذكرى حزينة وتاريخ.
ليس ثمة دولة يمكنها أن تضع حسابات مسبقة للزلازل، مهما كانت طبيعة تجاربها مع هذا النوع من الكوارث الطبيعية. ولكن الزلازل بهذا الحجم والوقع لابد أن تأتي معها بآثار سياسية، وليس متغيرات ديمغرافية واقتصادية وحسب. وسواء أفضى هذا الزلزال إلى تغيير في طبيعة السلطة والقوى الحاكمة، أم لا، ونجم عنه قدر من الانكفاء في دور تركيا الدولي والإقليمي، أم لا، فالمؤكد أن زلزال فبراير/شباط سيشكِّل منعطفًا سياسيًّا بارزًا في تركيا الحديثة، في رؤية تركيا لذاتها وفي رؤيتها للعالم من حولها.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية