بمتابعة التطورات التي أعقبت إسقاط طائرة السوخوي الروسية، يمكننا وضع يدنا على نوع قرار الكرملين ضد تركيا الذي أعلن فلاديمير بوتين بعض ملامحه التنفيذية، وقال إنه سيتخطى المجال التجاري والسياحي، وسيكون متدرجاً ومؤلماً، وسيجعل الأتراك يندمون كثيراً، لأنهم أسقطوا الطائرة، في حين كان قد اتخذ جملة تدابير عسكرية ميدانية رادعة إقليمياً ودولياً، تستهدف تقييد حركة القوات التركية المسلحة وفاعليتها، وفرض سياسة حافة الهاوية على حلفائها، مثل تعزيز الانتشار البحري الروسي شرقي المتوسط، قرب السواحل التركية، بطراد صاروخي فريد القدرات والتقنيات، وإرسال عدد كبير من الطائرات الحربية المتقدمة جداً إلى سورية، ونشر صواريخ s400 ذات القدرات الاختراقية والتعبوية الخارقة، القادرة على تقييد حركة الطيران التركي والأطلسي مئات الكيلومترات داخل الأراضي التركية، بما يعطل مجموعة مهمة من مطاراتها العسكرية، بما فيها التي يستخدمها “الناتو” وأميركا، ويمنعها من تحريك طائراتها، وتغيير أسلوب الطيران الروسي في مهاجمة الجيش الحر، وإدخال طائرات استراتيجية المهام وغواصات نووية إلى المعارك، واستخدام صواريخ طوّافة بعيدة المدى، دقيقة التصويب وذات قدرات تدميرية كبيرة، وأخيراً التوسع في استخدام الطائرات بلا طيار، لرصد “العدو” وتدميره، على الطريقة الأميركية في باكستان وأفغانستان واليمن.
بعد تصعيد التعبئة والقدرات الميدانية، وإعادة النظر في استخدامها، بدأ تطبيق الخيار السياسي/ العسكري الروسي الجديد، القائم من جهة على منع تركيا من إقامة منطقة آمنة، لأن قيامها
يعني تعظيم قدرتها على التدخل في سورية، وتعظيم دورها في تحديد نمط الحل السياسي فيها، ورسم خطوط حمراء لتدخل روسيا، خصوصاً إن أيدت واشنطن قيام المنطقة الآمنة، ومن جهة أخرى، على رسم خطوط حمراء روسية، لتدخل ودور أنقرة السوري، تشمل إرغامها على الامتناع عن التصدي للطيران الروسي، وإن اخترق مجالها الجوي، وشن هجوم شامل على من تدعمهم من الجيش الحر في جبلي التركمان والأكراد وطردهم منهما، قبل الانتقال إلى جسر الشغور وإدلب، وفي النهاية إلى حلب، وخصوصاً مناطقها القريبة من الحدود التركية، وصولاً إلى تطبيق تام لقرار روسي بإخراجها من الصراع السوري، وتدفيعها ثمن الخسارة الاستراتيجية الشاملة التي ستحل بها وبالجيش الحر الذي سيواجه الهزيمة بدوره، ولن يبقى له غير بقع أرضية في أواسط سورية، مفككة ومنفصلة بعضها عن بعض، ومقطوعة عن مصادر تسليحها وتذخيرها.
هذه التحولات العسكرية الروسية، وما يترتب عليها من هجمات، تبدّل اليوم الأوضاع الميدانية، وخصوصاً في جبلي الأكراد والتركمان، فرضت على تركيا التخلي عن المنطقة الآمنة، وقيدت بالفعل قدرتها على زيادة دورها المباشر في الصراع، وتركت لها خيارين: أولهما، صد الهجوم الروسي، بتوسيع عونها العسكري واللوجستي للقوى السورية المقاتلة وتنويعه، بحيث يمكّنها الردع الذي ستمارسه بالواسطة ضد الجيش الروسي من استعادة بعض حريتها في التحرك المباشر، علماً أن خطط الروس نقلت جزءاً كبيراً من ثقل المعركة السورية إلى منطقة الساحل السوري، ووضع تركيا أمام تصعيد يهدّد بالتحرش المباشر بها في أي وقت، داخل سورية وخارجها. وثانيهما: تفعيل التزامات “الأطلسي” تجاهها وتحاشي الانخراط المنفرد في الخيار الأول، بمخاطره التي ستتحدّى قدرتها على مواجهته، في حال صعد بوتين ضدها إلى حدٍّ لا قبل لها بمواجهته بمفردها. ثمة طبعاً إمكانية للجمع بين هذين الخيارين، لكن الغرب ليس مستعداً للقدر الذي تتطلبه من مجازفة.
والخلاصة: لا يبدو أن منطقتنا في طريقها إلى السلام أو الحل السياسي، ذلك أن روسيا منهمكة في تصعيدٍ عاصفٍ يطاول قدراتها الميدانية وأهدافها السياسية/ العسكرية، يستهدف شطب الجيش الحر من معادلات الصراع السوري الداخلي، وتركيا من معادلات الصراع الإقليمي، ويستبعد أن يوافق الكرملين على حلٍّ لا يعبر عن النتائج التي يريد لها أن تترتب على هذين التطورين، أي أنه لن يوافق على عملية سلامٍ قبل تحقيق قدر كبير من هدفيه السابقين، أو قبل تحقيقهما كاملين.
في الختام، أعتقد أن على مؤتمر الرياض مناقشة هذه التطورات الخطيرة، واتخاذ خطوات عملية من شأنها إفشال الخطط والخطوات الروسية ضد الجيش الحر، وتطوير علاقات المعارضة مع بيئتها القومية والإقليمية، وخصوصاً منها بلدان الخليج وتركيا، من أجل إرساء حماية متبادلة في الاتجاهين وضمانها، وفتح طريق الحل من خلال إفشال السياسات الروسية التي يعني نجاحها في دحر الجيش الحر، وإخراج تركيا والسعودية من الصراع السوري، تعظيم قدرتها على فرض حلٍّ، لا علاقة له بجنيف أو حتى بفيينا، جوهره احتواء المعارضة، أو بعض فصائلها من النظام، وإجراء بعض الإصلاح الشكلي فيه، وبقاء الأسد متربعاً على صدرنا، والبعث الطائفي سيد المواقف.
ميشيل كيلو
صحيفة العربي الجديد