شرق أوسط جديد في عالم جديد و… نعم للتفاؤل

شرق أوسط جديد في عالم جديد و… نعم للتفاؤل

لن تغيّر الحلقة الحالية في مسلسل الجرائم الاسرائيلية، التي بادرت اليها حكومة نتنياهو العنصرية الفاشية، ليلة الإثنين/الثلاثاء الماضية، باغتيال ثلاثة من قادة الجهاد الإسلامي، وعشرة مدنيين من الأطفال والنساء في قطاع غزّة، من صورة الواقع العام الأساسي، لحقيقة أن اسرائيل دخلت منذ اربعة أشهر ونصف الشهر، ومنذ تشكيل نتنياهو لحكومته الفاقعة العنصرية والفاشية، نفقاً ضيّقاً ومظلماً لا دليل على قرب خروها منه.. هذا إذا كان من الممكن أن تخرج منه أساساً، على شاكلة اسرائيل كما عرفناها، وعرفها العالم، منذ إعلان إقامتها قبل 75 سنة.

ذلك أن عالم اليوم، قيد التشكّل، والذي بدأت تتّضح صورته بتفاصيلها، مختلف بشكل قاطع عن عالم الأمس، وعالم أمس الأول، وما قبله أيضاً.

لم يشهد الشرق الأوسط، منذ أكثر من قرن من الزمان، تحوّلات جذرية إيجابية بوتيرة سريعة ومتسارعة، مثمرة ومثيرة للتفاؤل، مثل ما نشهده هذه الأيام.

كذلك، أيضا، هي صورة العالم اليوم، الذي لم يشهد تغيّرات جذرية منذ ثلاثة عقود، (مع سقوط الإتحاد السوفييتي، وهو  السقوط الذي عنى انتهاء “الحرب الباردة”، التي هي في الواقع “حرب عالمية ثالثة”، تخلّلتها وعبّرت عنها حروب بالوكالة في غالبيتها، وحروب تحرير شعبية، أدّت إلى زوال الاستعمار المباشر، وغير المباشر، عن جميع دول وشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، باستثناء واحد فقط، هو الإحتلال والإستعمار الإسرائيلي الذي ابتلِيت به الأمّة العربية، وشعبنا الفلسطيني بشكل خاص).

انطلقت الشّرارة الأولى لبدء هذا التّغيير الكبير على صعيد العالم، وعلى صعيد الشرق الأوسط، قبل أربعة عشر شهراً، (يوم 24 شباط/فبراير 2022)، مع انفجار الأزمة الأوكرانية، و”العملية العسكرية الخاصة” التي أطلقتها روسيا الإتحادية، وهي الأزمة التي ما زالت مستمرة، دون أن يكون هناك موعد واضح لانتهائها، رغم أن نتيجتها معروفة سلفاً: زوال الهيمنة الأمريكية، وانتهاء استفرادها بالتربّع، منفردة، على رأس هرم العالم.

 فرضت الولايات/الدول المتحّدة الأمريكية، خلال العقود الثلاثة الماضية، نظاماً عالمياً أسوأ من النظامين العالميّين السابقين، اللذان تشكّلا مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي أنهت الإمبراطورية العثمانية.

لكن، وبدل أن تتحرّر شعوب الأمة العربية، بزوال الإمبراطورية العثمانية، تمّ تقطيع أوصالها، بدءاً من “بلاد الشام”، وبإطلاق “وعد بلفور”، وبدء الإعداد لفصل المشرق العربي عن المغرب العربي، بالعمل على إقامة كيان صهيوني على ارض فلسطين.

أمّا النظام العالمي الذي تشكّل سنة 1945، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد كانت نتيجته الأولى تمكين العصابات الصهيونية من إعلان إقامة “دولة اسرائيل”، مع حرص شديد على اشتمال جغرافية ذلك الكيان على مساحة من فلسطين تمتد من حدودها الشمالية مع لبنان وسوريا، وحتى ميناء أم الرشراش (إيلات) على البحر الأحمر، ليكون الفصل بين آسيا وإفريقيا كاملاً، وضمان استمرارية هذا الكيان بتعزيز قدراته العسكرية والإقتصادية، من جهة، وبخلق كيانات ودول عربية متناحرة، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي/الفارسي، من جهة ثانية؛ وأصبحت خريطة العالم العربي أشبه ما تكون برقعة شطرنج: بجانب كل قطعة/دولة بيضاء قطعة/دولة سوداء، من اقصى دولة في المغرب العربي إلى آخر دولة في المشرق العربي.

بعد هذين النظامين العالميّين، جاء، (على مدى العقود الثلاثة الماضية)، “نظام القطب الواحد” الذي يترنّح هذه الأيام، وكانت الحركة الصهيونية واسرائيل، المستفيد الأول منه، وكانت فلسطين وشعبها، ومعه كل الأمة العربية، الخاسر الأكبر، وفي صورة ما كان عليه الوضع الفلسطيني والعربي حتى إلى ما قبل سنة واحدة، ما يشير إلى ذلك بوضوح كامل.

صورة العالم اليوم مغايرة، بل ومناقضة، لكل ما سبق. وتنعكس صورة العالم الجديد على عالمنا العربي، وعلى الشرق الأوسط الكبير بشكل مباشر، وهذا ما لمسناه ونلمسه في كل تطوّر جوهري في عالمنا ومنطقتنا على مدى الأشهر الماضية، وتحديداً: منذ بدء الانقضاض على تفرّد أمريكا في فرض هيمنتها، ومعها كتلة الأنجلوساكسون، (بريطانيا وكندا واستراليا)، بشكل خاص، ودول الغرب وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية، بشكل عام، على أحداث وتطورات الأوضاع في العالم.

يبدو أنه لا بد من توضيح. وللإختصار، قدر الإمكان، سأكتفي بالتركيز على نقطتين:

ـ النقطة الأولى: ما هو جوهر السياسة الأمريكية، الأنجلوساكسونية، الغربية، (ومعها “طفلتها المدلّلة، اسرائيل)، مقابل جوهر السياسة الصينية البديلة؟.

ـ النقطة الثانية: ما هو جوهر الصادرات الأمريكية، وكل حلفائها وتابعيها، مقابل جوهر الصادرات الصينية، وحلفائها أيضاً؟.

جوهر السياسة الأمريكية (عمليّاً)، هو: التفريق بين الدول والشعوب، بين الأديان والطوائف، بين الأعراق والقبائل؛ هو: إختلاق وتأجيج أسباب العداء بين الناس، وإقامة الحواجز والجدران بين الشعوب والدول، وتوتير الأوضاع على كل حدود كل الدّول في كل القارات في العالم.

جوهر السياسة الصينّية (عمليّاً)، هو: ما أعطته الصين إسم “مبادرة الحزام والطريق”، لإعادة إحياء “طريق الحرير” من أجل إقامة أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، يربط بين جميع الدول في جميع قارات العالم. وهذا المشروع العملاق اطلقته الصين عام 2013، ولتأكيد مدى اهتمامها بإنجازه، تم دمجه في دستور جمهورية الصين الشعبية عام 2017، باعتباره، كما جاء في نصّه “محاولة لتعزيز الإتصال الإقليمي، واحتضان مستقبل أكثر إشراقاً”.

هذا هو الفرق، والتناقض، بين سياستين: سياسة الجدران والحواجز والتوتّرات على كل حدود؛ وسياسة الرّبط والتّواصل، وترابط وتكامل المصالح بين الدول والشعوب والأديان والطوائف.

ثم، عن الصادرات:

ينصبّ تركيز أمريكا على تصدير كافة أنواع الأسلحة وأجهزة التجسّس لجميع الدول والشعوب، لمواجهة جيرانها التي حرصت وحرضّت على افتعال وتأجيج الصّراعات والحروب بينها. في حين أن تركيز الصين مُنصبّ على تصدير البضائع المدنيّة والخدمات، وبذل الجهود على بناء جسور التّفاهم والتّعاون والتّكامل بين جميع الدول مع جميع جيرانها.

في منطقتنا: حرصت أمريكا على تخريب علاقات الدول العربية مع بعضها البعض، ومع جيرانها ومحيطها، من إيران إلى تركيا إلى إثيوبيا وغيرها، وفي إثارة النّعرات العرقيّة، العرب والفرس والأتراك والأكراد والأمازيغ وغيرهم، (هل نقول اليهود أيضاً؟)، وفي إثارة النعرات الدينيّة، (شمال السودان وجنوبه مثلاً)، و(هل نقول اليهود أيضاً؟)، والنّعرات الطّائفيّة: السُّنة والشّيعة؛ ذلك في حين بذلت الصين جهوداً مثمرة في إعادة العلاقة بين المملكة العربية السعوديّة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما أدّى إلى بداية نشوء شرق أوسط جديد، واعد، أكثر استقراراً، ومبشّر بمستقبل من السلام والتعاون.

هذه هي صورة الوضع في العالم وفي منطقتنا.

 لكن كل ذلك لا يعفينا من تركيز النظر على الوضع الفلسطيني المنقسم على ذاته بشكل خطير، منذ الانقلاب الدموي سنة 2007، وفصل قطاع غزّة عن الضّفة الغربية، وإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، كممثّل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وهو ما مكّن اسرائيل من اتّخاذ هذا الواقع المرفوض، كذريعة للتّهرّب من دفع كل ما عليها من استحقاقات.

يكفي للتّدليل على ذلك أن نقرأ ما أورده الكاتب الإسرائيلي الليبرالي، ديمتري شومسكي، في جريدة “هآرتس” يوم 18.4.2023 ، من أن نتنياهو قال في جلسة مغلقة لأعضاء حزب الليكود الإسرائيلي يوم 11.3.2019، مدافعاً عن السماح بتمرير الأموال إلى حركة حماس في غزّة: “يجب على كل من يعارض قيام دولة فلسطينية، أن يدعم تحويل الأموال من قطر إلى حماس، هكذا أحبطنا إقامة دولة فلسطينية”. ولم يصدر عن نتنياهو، ولا مكتبه، أي نفي لذلك.

بدء انتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية والأنجلوساكسونية، هو بدء انحسار الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي لفلسطين. ولهذا التفاؤل ما يبرّره.

القدس العربي