مرحلة تأسيس جديدة”، هكذا وصف رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق فالح الفياض التحركات التي يقوم بها من أجل فصل هيئة الحشد الشعبي عن الفصائل المسلحة بقانون جديد، وهو ما يحفز عدداً من المراقبين على قراءة سيناريوهات مختلفة عن الغايات التي تقف خلف تلك الخطوة.
يرى مراقبون أن أسباباً عدة تقف خلف تلك التصريحات، لعل أبرزها محاولة حكومة محمد شياع السوداني الإيفاء بالاشتراطات الدولية التي أوصلته إلى السلطة، لكنها لا تتوقف عند هذا الحد، إذ ربما يمثل الحديث عن خلافات متزايدة داخل منظومة الميليشيات الموالية لإيران محفزاً آخر لتلك التصريحات، في حين يرى آخرون أنها ربما تمثل نقطة شروع نحو إنشاء ما يشبه “الحرس الثوري” الإيراني في العراق من خلال مأسسة تلك المنظومة وتضخيم أعدادها تحت سقف قانوني وجمع كل الفصائل المسلحة داخلها، خصوصاً مع الزيادة الملحوظة في أعداد وتخصيصات الحشد خلال العام الحالي.
وتواجه حكومة السوداني خلال المرحلة الراهنة تحديات كبرى، خصوصاً في ما يتعلق بملف الحشد الشعبي والجماعات الموالية لإيران، وما إذا كان سيتمكن من تلافي مأزق رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي في الرضوخ التام لإرادة الميليشيات.
حرس ثوري عراقي
يأتي الحديث عن خطوة فصل الحشد عن الفصائل بعد أيام قليلة على تصعيد هو الأول من نوعه في حكومة السوداني بين الميليشيات المسلحة والقوات الأمنية في منطقة البو عيثة في العاصمة بغداد.
وقال الفياض خلال المؤتمر الأمني للحشد الشعبي في محافظة نينوى إن “الحشد يشهد مرحلة تأسيس جديدة ستفصله نهائياً عن الفصائل المسلحة” من خلال إجراءات عدة منها “مسودة تعديل قانون هيئة الحشد الشعبي والانتهاء من عرض قانون الخدمة والتقاعد لمنتسبي الهيئة ودعمه في مسارات التشريع الأصولية”.
ويشمل مقترح القانون، بحسب الفياض، تخصيص زي خاص وعجلات بألوان مختلفة وهويات تعريفية للحشد الشعبي.
في المقابل يثير تزامن الحديث عن فصل الحشد عن الفصائل مع الزيادة الكبيرة في أعداد منتسبي الحشد الشعبي خلال عام 2023، إضافة إلى زيادة تخصيصات الهيئة المقترحة في الموازنة العراقية المقبلة، تساؤلات عن الغايات التي تقف خلف ذلك، إذ يرى مراقبون أن ما يجري يعطي انطباعاً بأن ثمة من يريد تحويل الحشد إلى مؤسسة أكبر بكثير لتكوين ما يشبه “الحرس الثوري” في إيران.
أما تقرير اللجنة المالية في البرلمان العراقي، فكشف عن زيادة أعداد القوى العاملة في الحشد الشعبي بنسبة 95 في المئة خلال عام 2023 في مقابل زيادة بنسبة ستة في المئة لوزارة الدفاع وثلاثة في المئة لوزارة الداخلية.
وينفي قادة الحشد بشكل مستمر تلك المزاعم، مؤكدين أن الحشد مؤسسة رسمية تخضع بشكل مباشر للقائد العام للقوات المسلحة ولا علاقة لها بالصراعات السياسية.
ويلفت الفياض إلى أن رئيس الحكومة هو “القائد الأعلى، وهيئة الحشد تأتمر بأمره”، مؤكداً أن “الحشد لا يتدخل في الشؤون السياسية، وهو مرفق عسكري في ظل حكومة منتخبة، لا يمثل إلا الطاعة والامتثال”.
وفي يناير (كانون الثاني) 2019، رفض زعيم ميليشيات “عصائب أهل الحق” تشبيه الحشد بـ”الحرس الثوري” الإيراني، مبيناً أن “العمل على استنساخ تلك التجربة سيفشل”.
وعلى رغم تأكيد قادة الحشد الشعبي على أنه مؤسسة خاضعة لرئيس الوزراء، شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة حوادث عدة تشير إلى غير ذلك، خصوصاً اقتحام المنطقة الخضراء ومحاصرتها في أكثر من مناسبة خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، على أثر إشكالات بين الحكومة والميليشيات الموالية لإيران.
تصريحات غير مهمة
في مقابل كل تلك السيناريوهات، يتصاعد الحديث عن وجود خلافات داخلية واسعة في أجواء الميليشيات الموالية لإيران أسهمت بشكل مباشر في تحفيز الشروع نحو خطوة فصل الحشد عن الفصائل.
وعلى رغم الحديث عن الخلافات المتنامية في أوساط الميليشيات، فإن ما يوحي بأنها لم تتخذ بمعزل عن إرادة قادة الفصائل وداعميهم من صانعي القرار في طهران هو عدم صدور أية اعتراضات من الميليشيات على رغم مرور أيام على حديث الفياض.
يرى النائب المستقل سجاد سالم أن تلك الخطوة تأتي لأن الفصائل المسلحة لطالما تسببت بحرج كبير للحكومة العراقية أمام المجتمع الدولي، خصوصاً مع تصنيف كثير منها ضمن قوائم الإرهاب الدولي.
ووصف سالم تصريحات الفياض الأخيرة بـ”غير المهمة”، خصوصاً لأنه “لا يسيطر فعلياً على الهيئة التي تعاني صراعات مزمنة”.
ولعل الحل لهذه المعضلة، بحسب سالم، يتمثل في “تخيير عناصر ومنتسبي الحشد بين الوظائف المدنية أو العسكرية ومن ثم الشروع في توزيعهم بما يتناسب مع مؤهلاتهم”.
ويختم بأن المنتسبين العسكريين في الهيئة “يودون أن يتم توزيعهم على القوات الأمنية الرسمية، لكن ما يعرقل ذلك هو اتجاهات قادة الفصائل التي تحاول الإبقاء على تلك الحال الاستثنائية لغايات سياسية”.
إنهاء “اللعبة المزدوجة”
لا تتوقف الغايات عند حدود تلبية الاشتراطات الدولية، إذ تبدو تلك الخطوة أيضاً محاولة لامتصاص الغضب الداخلي العراقي، بخاصة أن الحشد والميليشيات مارسوا خلال الأعوام الماضية ما يطلق عليه “اللعبة المزدوجة”، إذ إن الفصائل تلام على الأفعال التي لا تخضع للقائد العام للقوات المسلحة أو حالات الصدام مع القوات الأمنية التي تكررت مرات عدة.
ولا يرى الباحث والمتخصص في الشأن العراقي مصطفى ناصر وجود أي تشابه بين حقبة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي والمرحلة الحالية برئاسة السوداني، مشيراً إلى أن الأخير “جاء باتفاقات إيرانية- أميركية وهو ما يجعل الميليشيات المسلحة أكثر استرخاء”.
ويستبعد إثارة بعض الميليشيات أي تصعيد في خصوص محاولات فصل الحشد عن الفصائل، تحديداً مع اعتقاد قادة تلك الجماعات المسلحة بأن “طهران راضية عن الاتفاقات الدولية داخل العراق”.
وعلى رغم ذلك، يعتبر ناصر أن فصل الحشد عن الفصائل “لا يعد حلاً لإشكالية السلاح”، خصوصاً أن “هيئة الحشد الشعبي تمثل أصل إشكالية الحكم في العراق خلال الأعوام الماضية”.
ويتابع أن الحشد الشعبي بات “يمثل جسداً موازياً داخل السلطة ويحمل مشروعاً سياسياً يمتلك جماعات مسلحة كبيرة وبإمكانه قلب أية معادلة سياسية كما حصل عام 2022 مع التيار الصدري”.
ولا يعتقد ناصر بأن ما يحفز تحركات فصل الحشد عن الفصائل هو “تنفيذ الاشتراطات الدولية فحسب”، بل إن الهيئة تحاول “إعادة ترميم وجودها في مؤسسات الدولة خلال الأعوام الماضية، خصوصاً بعد تخلي السيستاني عن الحشد وسحب ألويته منه”.
ويختم بأن الأمر الآخر الذي يحفز عملية الفصل تلك هو أن “الميليشيات لم تعد في حال صراع مع الحكومة”، لذلك فإن فكرة “اللعبة المزدوجة” في إلقاء اللوم على الفصائل من دون الحشد الشعبي في أي إشكال أمني أو سياسي لم تعد مجدية خلال المرحلة الراهنة.
حسم سريع للاشتراطات الدولية
في المقابل يقول أستاذ العلوم السياسية عصام الفيلي لـ”اندبندنت عربية” إن لدى السوداني قراءة موضوعية لطبيعة الأوضاع الداخلية والخارجية، وهذا الأمر يدفعه إلى محاولة إرسال رسائل طمأنة للخارج في شأن التحدي الأكبر المتمثل في حصر السلاح بيد الدولة لأنه يمثل أبرز الاشتراطات الدولية على الحكومة العراقية.
ويضيف أن تحرك الحكومة سريعاً في التعاطي مع ملف السلاح يمثل “رسالة إلى المجتمع الدولي بأنها جادة في حسم الاشتراطات الدولية”، مبيناً أن كل القوى التي لا تمتلك جماعات مسلحة ستدعم هذا التوجه.
وتشكل تلك الخطوة نقطة شروع لـ”البراءة من أية تحركات للفصائل المسلحة خارج سياق الدولة” كما يعبر الفيلي الذي يشير إلى أن “ثمة توافقاً على تنفيذ تلك الاشتراطات، خصوصاً من القوى السياسية التي لا تمتلك جماعات مسلحة”.
ويرجح قبول معظم الجهات تلك الخطوة مع “استشعار أخطار الاستمرار في مواجهة الاشتراطات الدولية”، لافتاً إلى أن ما يجري يعطي انطباعاً بأن “ثمة صيغة وسطية تم التوافق عليها”.
وعلى رغم احتمالات التوافق الداخلية بين أوساط الجماعات المسلحة، يعتقد الفيلي بأن هذا الأمر سيحفز نوعاً من الخلافات والصراعات الداخلية بين الجماعات المسلحة نفسها، خصوصاً تلك التي لم تحصل على مكاسب سياسية خلال المرحلة الحالية.
ويختم بأن كل تلك الدعوات تندرج ضمن “رسائل طمأنة المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي، بالتزامن مع ما يعرف بطريق التنمية الإستراتيجي الذي ستحضره دول خليجية”.
اندبندت عربي