ليست جديدة جولة الصراع الحالية بين الأمتين التركية والروسية، والتي نشهد فصولها هذه الأيام. والشاهد هو التاريخ الذي يتحدث عن سلسلة من الحروب بين الإمبراطوريتين، كان آخر نسخها حرب القِرم في القرن التاسع عشر. وما كانت الحرب العالمية الأولى إلا ترجمة لهذا الصراع، إذ اصطفت الدولتان مع حلفين نقيضين في معادلة تلك الحرب.
أسقطت طائرة “السوخوي” الروسية ذات الجيل الرابع والعشرين، من قبل طائرة تركية. وبسقوط هذه الطائرة تفجرت أزمة دبلوماسية بين الدولتين غير مسبوقة في العصر الحديث، ما تزال مآلاتها وتجلياتها تتفاعل، ولا يتوقع تسويتها في المدى المنظور على أقل تقدير.
واللافت في إسقاط الطائرة هذه، كشف النقاب عن صراع مستتر بين الدولتين في عدة ملفات على الصعيد الدولي والإقليمي. فها هي الحرب في سورية وعليها تشهد مقاربتي النقيض لكلتا الدولتين منذ بواكير الأزمة السورية. إذ ذهبت روسيا بعيداً بمساندتها للنظام في دمشق، وفي المقلب الآخر من معادلة الاصطفاف أخذت تركيا جانب المعارضة وتبنت مواقفها. واليوم، بعد إسقاط طائرة “سوخوي”، نشهد مرحلة استعصاء الحل، ودخول هذه الأزمة نفق الصراع الدبلوماسي.
وقد أخذت كلتا الدولتين تتقاذفان إصدار المواقف دفاعاً عن مقاربتهما في أزمة إسقاط الطائرة، واتهام الطرف الآخر وتحميله المسؤولية، واستصدر القرارات التي تدخل باب فصل العقوبات والعقوبات المضادة.
في خضم ذلك، شرعت روسيا في اتخاذ رزمة قرارات اقتصادية متصاعدة توصف بالعقابية بحق الدولة التركية، منها فرض عوائق لدخول البضائع ذات المصدر التركي إلى الأراضي روسيا، ووضع قوائم ببعض المنتجات الزراعية وبعض المواد الخام التركية كبضائع محظورة الدخول للأراضي الروسية، مروراً بوقف رحلات “التشارتر” الجوية، وحظر حركة العمالة التركية، وفرض نظام التأشيرات “الفيزا” على المواطنين الأتراك، بعد أن كان ليس معمولاً بها بين البلدين، وصولا حتى إلى اتخاذ المواقف الأكثر تصعيداً بالتهديد بفرض تعديلات على واردات الغاز الروسي لتركيا تصل حد إيقافه، كما المصير المجهول للمشاريع الطموحة في مجال الطاقة الذرية.
في المقابل، نجد تركيا أقل اندفاعاً وأكثر حذراً في استصدار رزمة من القرارات العقابية رداً على رزمة القرارات العقابية للإدارة في الكرملين، إلا أن ذلك لم يمنع الأتراك من التلميح بها. وبالتوازي ذهبت الإدارة في أنقرة إلى البحث عن البدائل في الأسواق المجاورة، وعلى وجه الخصوص بدائل واردات الغاز. وما زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لقطر إلا تعبير عن ذلك.
إن لهذه الأزمة التي أخذت شكل الصراع الدبلوماسي حتى اللحظة، والتصعيد الإعلامي المتبادل بين الدولتين، آثارا مدمرة على البلدين إذا ما عرفنا أن حجم التبادل التجاري بينهما يصل إلى أربعين مليار دولار. وهذا الميزان التجاري وحجمه جعلا تركيا شريكا تجاريا استراتيجيا لروسيا الاتحادية في المرتبة الخامسة. وبذلك تعتبر تركيا رئة رئيسة تتنفس منها روسيا للافتكاك من أزمة العقوبات المفروضة عليها من الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، بعيد الأزمة الأوكرانية وتفاعلات الاشتباك هناك، والذي ما يزال يتفاعل حتى اللحظة.
لقد اعتلت تركيا صهوة الدور البديل والممر الآمن لروسيا على الصعيد الاقتصادي، فكان للبضائع التركية دورها كبديل عن البضائع الغربية التي فُقدت من الأسواق نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا من المتحالفين مع حكومة كييف، ملبية حاجة السوق المتعطشة لهذه المنتجات.
والأهم من ذلك هو الجغرافيا التركية التي تعتبر بوابة نحو المياه الدافئة للأساطيل الروسية، التجارية منها والعسكرية، وهي التي تملك مضيقي البوسفور والدردنيل، الحاجزان الطبيعيان المتحكمان بالملاحة من وإلى البحر الأسود. وهذه الجغرافيا أيضاً فرضت نفسها كعوض وبديل لمسار خطوط أنابيب الغاز، هذه السلعة النفيسة والاستراتيجية للأسواق المتعطشة لها في العالم وبالأخص دول أوروبا الغربية، والتي لم تجد حتى اللحظة بديلاً عنه.
إذن، معادلة الاقتصاد وقهر الجغرافيا التي تتمتع بها حيثيات العلاقة بين البلدين، كفيل كل واحد منهما بنشوب حرب إقليمية لا بل قد تصل تجليات تدحرج الأزمة إلى حرب عالمية. وهما في الوقت ذاته كفيلان بتوطيد أسس تسوية سلمية بين البلدين تعيد أمجاد العلاقة بينهما إلى سابق عهدها وتطويرها، خضوعاً للحاجة القاهرة لكل منهما للآخر، وافتقارا للبدائل في جعبتيهما. وبالضرورة لا تلبي البدائل الجزئية المصلحة المطلقة لكلا البلدين. والأيام المقبلة حبلى بتطورات الأزمة والمآلات التي ستصل إليها.
ناصر السعدي
صحيفة الغد الأردنية